حين يصير النص جمرا قراءة تأويلية في ديوان «سماد الحروف» للشاعرة سعاد عبيد الله 2/1

 

عندما نقرأ للشاعرة الرقيقة سعاد عبيد الله، فإننا نخوض غمار تجربة شعرية غارقة في الاختلاف والمغايرة والانتشاء والمتعة، وعندما نقول الاختلاف فإننا نقصد به حضورنا ضمن منجز شعري بامتياز من حيث البناء والصور والدلالة، بذلك يصير وجودنا وجود قارئ مستكشف يجد نفسه وجها إلى وجه مع نصوص مختلفة الرؤية الشعرية رؤية وبناء وصياغة، فالشاعرة لا تكتب للتماهي الإبداعي أو للخلق من نظير سابق، فهذا النمط من الإبداع يخرج من جبة النموذج والسابق وما قيل.. لكن الكتابة الشعرية عند الشاعرة العاشقة سعاد عبيد الله هي تجربة مغايرة تركب الاختلاف كمنهج في تصور الكتابة والحياة معا، من خلال الإغراق والتوغل في الفعل العشقي المختلف، الذي يعكس من خلال الأداء والبناء رؤية متغيرة للمشاعر والأحاسيس، مرتبطة بالحب ارتباطا وثوقيا لا ارتباطا متخيلا يهدف إلى صناعة النص الشعري ويكتفي به. إن الكتابة الشعرية عند الشاعرة هي تجربة حب متحقق في النص، كما هو متحقق في الحلم والحقيقة، نفترض ذلك من خلال مجموعة من المؤشرات الدالة على عمق التجربة وبحكم توظيفها مجموعة من الأدوات والنماذج المتخيلة والصور، والعبارات الدالة على حرارة هذه التجربة الشعرية العشقية، وعلى وجود بقايا رماد هذه التجربة على مستوى المتخيل الشعري الذي لا يكتفي بصياغة نفسه صياغة مألوفة متوقعة، بقدر ما ينطوي على مستويات من اللامتوقع وآفاق مختلفة من التوهج والتجاذب بين حرارة العبارة وصدقية التجربة.
هكذا يصير النص الإبداعي عند الشاعرة عبيد الله جمرا تكتوي به الشاعرة أولا قبل أن يكتوي به القارئ، ويصير للحروف نزيف وللأنين صوت متحرر في ثنايا النص لتتحول الابتسامات وتغدو مقصلة تنتحر عليها الأشواق والذكريات. لكن قليلا من الفرح يكفي:
كي تعزف قيتارة
الليل.. ماتشاء
تستدرج حبيبات
الجليد….
من مشابك الروح
إلى مدّ الفناء
تسحب من وكر
اليأس..
أكدنا في مستهل منطلقنا التأويلي لمنجز الشاعرة سعاد عبيد الله أن القراءة الأقرب إلى افتحاص المعنى وتأويله عندها هي قراءة الانتشاء، والانتشاء هنا لا يخرج عن التصور الذي يرى أن القراءة الشعرية هي قراءة لذة ومتعة، فللنص لذته، كما يرى رولان بارث، كما أن لفعل القراءة ووقعه الجمالي على القارئ كما يرى رواد نظرية القراءة، أثره في خلق الانتشاء المتوقع. وبذلك تشترك القراءة والكتابة في فعل واحد هو الفعل الجمالي الذي يخلق دهشتنا بما نكتب أو بما نقرأ، لكن ليس كل ما نقرأه أو ما نكتبه يستطيع التشويش على أفق انتظاراتنا الأدبية خلال رحلاتنا اليومية في قراءة النصوص على اختلاف أجناسها وأنماطها، إذ لابد من حصول نوع من الحرقة الشعرية ونوع من الانغماس في لذة الجراح والأنين في تلقي شعرية الشاعرة، من هنا فالدهشة الجمالية المتوخاة هي دهشة الألم والحب والجراح بحكم انطواء أكثر نصوص الشاعرة على لغة واحدة هي لغة النزيف والاحتراق، وبذلك يكون الانتشاء بألم الحب من جهة الشاعرة مصدر انبعاث شعري جديد يصنع المتخيل، ويفتل أفق التأويل المستنبط من احتراق الدلالة واحتراقات الذات وآلامها جراء ما كابدته أثناء الكتابة الشعرية الاستيهامية، وما يمكن أن يكابده القارئ أيضا أثناء القراءة الاستكشافية. هناك إذن علاقة تجسير وجداني بين الشاعرة المحترقة والقارئ المنبهر بعوالم العشق والحزن، هذه الدهشة يقابلها حصول فعل الغواية أثناء فعل الكتابة الشعرية. فالكتابة عشق مستمر، والبوح الشعري تدفق وغواية، تمارس عليه وفيه سحر الحروف والعبارات، خاصة إذا كان للحروف أسمدة تتغيا تخصيب المعنى وتخميره، هذا ما نراهن على استكشافه في ديوان «سماد الحروف»(1) للشاعرة سعاد عبيد الله، التي نقرأ لها هذا الديوان الشعري بنفس الشغف وبنفس الرؤية التي تجعلنا نقرأ لزمنين شعريين: زمن الذاكرة والترحال، وزمن الحلم والقصيدة، وعبر هذا المسار المتدفق من ينبوع الذاكرة إلى مصب الشعر، تنتصب أمامنا حياة حيّة متحولة، متحركة، شغوفة بالنص ومعاناة ولادته من ذات لا تنتظر حتى يأتيها القصيد، بل تنغمس في حروفه وأبنيته، ليصير خلقا مشتعلا بالآهات، معبّرا عن تجربة فتية تقول كل شيء، ولا تدع للأحلام بقية.
هكذا نستطيع أن نقول إن تجربة الشاعرة هي تجربة نص/ حياة، مبتلة بالدموع، نص/حلم، قادم من جوف ذاكرة تتسع لتحضن كل التفاصيل المحاصرة بعنف المكان وقبضة الزمان، ذكريات تعيش تموجاتها تحت قبضة الحصار لتنشد الانتصار، وتتحول إلى وديان وأنهار، أنهار الوجع الذي يحرك الأغصان، ويعيد للربيع توهجه واخضراره.
إن كتابة العشق والألم حاضرة على متن الديوان الشعري «سماد الحروف» لكن لتجربة الشاعرة بهاء خاص، ووجع متمايز، فالنص عندها حالة وهالة، طويت بين الجوانح، وغاصت في محو سحيق، لكن الكتابة عن المحو وبالمحو تستحق منا بعض التأني في استبصار الدلالة وعوالمها. فالمحو عنصر حاضر بل هو تقنية مضيئة ولها تجل قائم، لكنه يستحيل عندها نوعا من الإشراق الذي ينبعث من تحت التراب: « فكان القبر … وكانت الجنان..»
هكذا تكون لنصوص الشاعرة إشراقات تضيء تجربتها بالكثير من الصور والأخيلة التي تصنع كونا عاشقا يمتد ويتمدد، ليسع رؤيتها الحالمة بحضن أرحب، وبحب يأبى إلا أن يعيش في زمن التحولات التي لا تُبقي على شيء، سوى الذكريات البعيدة في الزمن، القريبة أو الموغلة في القلب. لهذا فنصوص الديوان تكشف لنا أن الشعر، علاوة على أنه امتداد للروح، واتساع للجروح، فهو أيضا شروق وانبعاث من خلف الأبواب، هو إيمان بالاستمرار والحياة في كنف الانتظار، بل الشعر هو مرعى الأحلام المؤجلة الهاربة من قبضة النسيان.
من جهة ثانية، وتعميقا لفعل القراءة المغايرة والباحثة عن تفاصيل البوح وصناعة الجرح، نجد أن صناعة القصيدة عند الشاعرة هي بشكل آخر تمرد على النسيان الذي يُصر على الوجود بين الأسطر والحروف، فالشاعرة تصر على البقاء في عوالمها الخاصة جدا، فلا ترغب في الخروج من ذاكرتها الشعرية ولا ترغب في الابتعاد عن ضلالها الشعري والعشقي معا، فهما معا متلازمان ويبعثان على الكثير من الفيوض الشعرية، كما يبعثان على المزيد من الكتابة الأليمة التي تأبى النسيان: نسيان ما فات، لتحقيق الانتصار انتصار الورود التي تنبت هنا وهناك. إن هذا التوهج الشعري يجعلنا أمام نصوص تعلن عن ميلاد قديم وجديد لشاعرة رقيقة بين أحضان الصور الكثيفة بالرموز، المؤثّثة بأنوثة عاشقة، محترفة للاختلاف في التعبير عن تجربة كبيرة، ممتدة إلى زمن الذاكرة التي تنتفض ضد زيف المشاعر البلهاء.


الكاتب : د. مصطفى شميعة

  

بتاريخ : 18/01/2021

أخبار مرتبطة

‬بعد ربع قرن‮ ‬على العهد الجديد،‮ ‬لو سألنا السي‮ ‬محمد‮ ‬ما هو أهم شيء تغير في‮ ‬المغرب أو ما الذي‮

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

ضرار نورالدين كائن متعدد : شاعر ، مترجم ، موسيقي وكاتب قصة للأطفال ، كما في جبته العديد من المشاركات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *