خواطر من «مسافة الصفر» -08-

هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.

 

لقد عاش عمر مرحلة غنية على المستوى السياسي والايدلوجي دشنها بروز المقاومة الفلسطينية وتعقيدات هزيمة 67. و عاشها بروح مفعمة وجدانيا بإيمانه الحار بشرعية الثورة الفلسطينية وارتباطها العضوي بقضايانا في التحرر الوطني. وانتبه باكرا لانعزالية الاطر المغربية التي يسمها تحديدا بالتبعية للثقافة السياسية الفرنكوفونية المضللة في كل قضايانا العربية الرئيسية، والمنفصلة حتما عن هموم قضايانا الوطنية والقومية. قيمة هذه المقالة النقدية من قِبله، انها كشفت وبالوقائع عن مصادر حالة الاغتراب التي كان عليها جزء من « النخبة « المغربية وقتها. وقد تكون المفارقة هنا أن هذه الظاهرة قد بقيت هامشية وثانوية في المشهد الوطني الذي سيعرف نموا كاسحا من مثقفين واحزاب ونقابات ومنظمات مجتمع مدني واعلام وجماهير، وتجلى في تظاهرات متواصلة ومتنوعة الاشكال التعبيرية جعلت من القضية الفلسطينية محور اهتمام يومي لا ينفك عن مجمل القضايا الوطنية التحررية الاخرى، كما ارتفع الاهتمام السياسي والفكري بكل القضايا العربية الاخرى، وبكافة بلدانها لارتباط الجميع بالمصير القومي التقدمي المشترك. لكنه كان مدا قوميا تحرريا لم يصمد طويلا أمام التحولات العالمية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي ومعسكره، وخلال فشو الايديولوجية النيوليبرالية في كل بقاع العالم. قليلون ما زال يتذكر أن أول ما قامت به الولايات المتحدة فور سقوط الاتحاد السوفياتي إلغاء قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي كان يصنف الصهيونية كأحد أشكال العنصرية!
وهذا التحول التراجعي في الساحة المغربية و العربية و(غيرها) يطرح علينا سؤال الظل، كيف جرى هذا الارتداد؟
لدي فكرة عن الساحة المغربية، كررتها مرارا في عدة مداخلات، وهي أن الحركة التقدمية ، رغم ما عرف بسنوات الرصاص، كانت قوة جماهيرية فاعلة التأثير في صنع تطورات المجتمع المغربي، وأكاد أجزم، أن طوال تلك المرحلة، وفي أتون الصراع الحاد، كان المجتمع المغربي يتمتع بحيوية سياسية على أعلى درجة مقارنة له بباقي الوطن العربي. لأن هامشا من الحرية السياسية المتوترة بقي قائما. وهذا يعود بقدر كبير الى موروث العلاقة التي ربطت بين القصر والحركة الوطنية لتشاركهما في معركة الاستقلال الوطني. لكن فكرتي الاساسية ان هذا المسار السياسي الحيوي للمعارضة التقدمية شهد في محطات مختلفة تقلصا لفئة أو قسم من قواعدها الاجتماعية (فلاحون، تجار وميسورون، كوادر ادارية، عمال) وكان المثقفون والطلبة آخر فئات تنسلخ وتتفكك كأنتلجنسيا أضحى لها وزنها الفاعل في الحياة السياسية والاجتماعية.
انه تحول نوعي بالمقارنة مع زمنية عمر بنجلون ، وقتذاك كان الطلب على الايديولوجيا الماركسية مرتفعا، وكان المعيار الاخلاقي للمثقفين وللجيل المتعلم الصاعد رمزية «المثقف العضوي» المشدود الى الجماهير والى الممارسة السياسية . بهذا المعنى شكل المثقفون والشباب المتعلم أنتلجنسيا لها وزنها السياسي في الحياة الحزبية و المجتمعية . وكان لتشرذمها و تفككها الفرداني الاثر البالغ على دينمية المجتمع المغربي. و الحق أن شخصية عمر بكل مزاياها كانت تمثل لحظة صعود الانتلجنسيا الذي لم يدم بعده طويلا .
ادى هذا التحول عندنا، و في العالم العربي، الى فشو ثقافة الاستسلام من لدن «نخبة» كانت في جلها يسارية. ومن يريد ان يأخذ فكرة عن ألسنة هذه الثقافة المهزومة في القضية الفلسطينية تحديدا، يمكنه أن يعود الى الكتاب النقدي والدقيق للكاتب الفلسطيني (بلال الحسن – ثقافة الاستسلام) لم يكن هذا التحول في الوضع الثقافي الايديولوجي في الساحات العربية منفصلا عما عرفه العالم من دوي مهيمن للإيديولوجيا النيوليبرالية. و كما جاء في مداخلة رفيعة للأستاذ المفكر عبد الالاه بلقزيز حول «العولمة و أزمة الهوية» وفيما معناه ، لا تعود هيمنة النيوليبرالية الامريكية الى عمقها و متانتها الفكرية، بالقياس مع ما للتراث الفكري الفرنسي والالماني والانجليزي، بقدر ما يعود انتشار رواجها الى استعمالها للأدوات التقنية المعلوماتية والاعلامية الجبارة، و الى توظيفها المدروس لأبعاد ثقافة الصورة على المتلقي. ودون ان نستغني بطبيعة الحال عن تحكم أباطرتها في تمويل وتوجيه العديد من مؤسسات الأبحاث المختلفة الاختصاصات وتسويق منتوجها البضاعي بصيته العالمي المدوي.


الكاتب : محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 20/03/2024