خواطر من «مسافة الصفر» 2 :

هذه بعض الخواطر التي راجت في ذهني، وأنا اتابع قضايا وتفاصيل ومشاهد المعركة التاريخية الكبرى التي فجرتها المقاومة الفلسطينية يوم 7 أكتوبر، وفي يومها المائة. ولأنها مجرد خواطر فهي أقرب إلى حوار ذاتي مع الأسئلة التي كنت أطرحها على نفسي خلال مجريات الأحداث؛ ولا أزعم أنها ارتقت إلى موضوعات كاملة المعطيات ومتكاملة المبنى والتركيب. وقد عنونتها من مسافة الصفر كناية على أنها من وجدان مندمج مع المقاومة قلبا و قالبا.

 

 

في جميع ما ذكرت من خلافات سابقة، لم يكن للمنظور التطبيعي السلمي مع إسرائيل حضور بنفس القوة كما هو عليه في العقود الأخيرة. و لذلك، قد يطرح السؤال، وما الفائدة إذن من كل هذا التذكير؟ وقد حسم التطور الموضوعي في خلافاته السابقة في غير الوجهة التي كان عليها . سأعود إلى هذه المسألة بعد أن أجيب على الانتقادات السابقة لقصور المقاومة الفلسطينية:
أولا: لم تعد المقاومة الفلسطينية تنطلق من دول الجوار كما كانت في الماضي، بل هي من داخل فلسطين و من بين أحضان شعبها في ساحاته جميعا (غزة و الضفة الغربية و ما قبل 48)
ثانيا: لقد وقع تحول كبير في طبيعة الحروب الراهنة من حيث غلبة الطائرات المسيرة والصواريخ والقذائف ذات الأبعاد والطاقات الانفجارية المختلفة و الموجه منها بتقنيات حديثة. و من هذه الناحية أمكن للمقاومة في فلسطين و في الجبهات المساندة أن تستفيد هي الأخرى من هذا التحول مكنها من قوة ردع مناسبة و فعالة.
ثالثا: كما عوضت المقاومة في غزة عن نقائص مساحتها الضيقة و المسطحة العارية بإبداعها الخارق للأنفاق تحت الأرض مما أبطل للعدو تفوقه العسكري و قدراته على السيطرة بدون خسائر فادحة في الأرواح و العتاد لا يتحملها. و صارت غزة رغم الحصار لنحو 17 سنة من وجهة ما مثيلة لدور هانوي في الفيتنام، إنها هانوي فلسطين، و لها جبهات إسناد عربية مقاومة لها من قوة الردع ما كان مفترضا ان تملأه الجيوش النظامية، و لا يمكن في هذا الصدد إغفال ما تقوم به الجمهورية الإيرانية من دعم على كافة الواجهات.
وإذا ما صرفنا النظر عن القوى المزايدة ذات الحسابات الانتقامية التي أشرت إليها في خلافات المنظورات السابقة، و هي كانت على نوعين، قوى ذات إيديولوجية ماضوية تقليدية، و أخرى ذات تطلعات ليبرالية تبعية سواء كانت من بقايا ماض ولى أو من فئات اجتماعية ناشئة و نامية، فإن المنظور الثاني الذي ذهب يسارا لما هو أبعد، يمكن القول فيه إجمالا، أنه ارتكب خطأ تكتيكيا بالغ الأهمية في تقديره للوضعية المرحلية، وما كانت تتطلبه وقتئذ من مرونة سياسية و من تعبئة لكافة القوى العربية والدولية المتاحة. ولا عجب في ان هذا الانحراف التكتيكي كان ناجما عن قصور أيديولوجي تضخم فيه هو الآخر التحليل الطبقوي بدل التحليل المجتمعي التاريخي الأشمل و الأكثر تعقيدا. صحيح أن ما كان يخشاه هذا المنظور في مغالاته التكتيكية قد تجلى فعلا في الردة الساداتية التي شرعت الأبواب لما تلاها من ارتداد قومي عام، بعد أن ركبت، ويا للمفارقة ، على ظهر حرب نظامية أبرز فيها الجيش المصري (والسوري) كفاءته وقدراته المتميزة والظافرة، لولا الاستثمار السياسي السيء المحكوم مسبقا بإرادة قطرية ضيقة و بتطلعات طبقية تبعية . كما ركبت على إجماع عربي رسمي فعال، قل نظيره. و كلا العاملين السابقين، كانا من ثمار ما ركز عليه عبد الناصر من تراكمات بعد الهزيمة (بناء الإجماع العربي، إعادة هيكلة الجيش وتجديد تسليحه، وإقامة جدار الصواريخ ، وخوض حرب الاستنزاف ….)
صحيح إذن، أنه يمكن القول إجمالا، أن المغالاة التكتيكية لم تكن خاطئة كلية على المستوى الاستراتيجي، لما بينته من ضعف في النظام الناصري على إثر الانقلاب السادتي السهل و المباغت نحو اختيارات أخرى شاملة و نقيضة. لكن، و حتى مع هذه الحالة، أي معنى يبقى للاستراتيجية إذا كان تكتيكها الملموس، والذي هو تشخيصها الأعلى، خاطئا؟! في الخلاصة العامة لتلك السردية الموجزة، أن التجربة الحية لمقاومة الشعب الفلسطيني، في ظل ما اعترى الوضع العربي من تراجع و هوان، تثبت أن نضال الشعب الفلسطيني و مقاومته هي الرافعة الثابتة و الركن المكين الأساس في معركة تقرير مصيره.
فلا يتصورن أحد، أن تحرير فلسطين بأية صيغة ممكنة ستكون بغير مقاومته المستميتة والدائمة. كما تبث أيضا أن معركة التحرر القومي هي أعقد تركيبا، و أبطأ دينامية، من حركية الشعب الفلسطيني الذي هو أول من يكتوي بنيرانها و يعيش يوميا في أتونها ومخاضاتها. غير أن هذه الحقيقة التي ما عاد يساورها أدنى شك ، لاسيما بعد طوفان الأقصى.، لا تلغي بالقطع أن هذا الدور الرئيس للشعب الفلسطيني يندرج هو الآخرفي صميم صيرورة معركة التحرر القومي للشعوب العربية . إنها وحدة جدلية يتبادل الطرفان التأثير في حصيلتها.  وليس تشديدي هنا على الوحدة الجدلية لغرض التعويم اللفظي الهروبي المعتاد، لأن القصد منها ليس أكثر من أنها نهج في التفكير يرشد التصور المرحلي، فلا هي حزمة من الإجراءات التنفيذية و لا هي تمدنا بتصور مسبق لكافة مراحل الصيرورة التاريخية. وتأسيسا على هذا المنطق، أرى أن نفي أو تبخيس أيا من الوسيلتين، حرب المقاومة الشعبية أو الجيوش النظامية مضر بالقضيتين معا، الفلسطينية والعربية عامة، لأنهما معا محكومان تاريخيا بالمصلحة المشتركة في ضمان الأمن القومي. والأمن القومي، الوحدوي والتحرري الاتجاه، يشترط بعد السيادة الوطنية الحرة، الإنجاز الحثيث لضمان التفوق الردعي للجيوش العربية ضد عدوها المشترك … و حينها سيجد كل من المقاومة الشعبية و الجيش النظامي تفاعلهما المثمر، الممكن و الضروري .


الكاتب :   محمد الحبيب طالب

  

بتاريخ : 13/03/2024