د.حميد لشهب صاحب «شرفات حوارية»: بين الفكر والهجرة يفرض حوار الثقافات نفسه

يعيش الباحث المغربي د. حميد لشهب منذ 35 سنة خارج المغرب، خمس سنوات في فرنسا و30 سنة في النمسا. تخرج من جامعة فاس في تخصص علم النفس، وحصل على دكتوراه في علوم التربية بجامعة ستراسبورغ الفرنسية، قبل أن يرحل إلى الديار النمساوية حيث أكمل تكوينه في علم النفس الإكلينيكي. يشتغل خبيرا سيكو- بيداغوجي متخصصا في الشباب والمراهقة منذ تخرجه، كما خبر التدريس في معاهد عليا في النمسا وإمارة الليكتنشطاين.
نُشر للدكتور لشهب أكثر من 25 مؤلفا تتوزع بين الإنتاج الأدبي (6 روايات) والترجمة (مؤلفات فلسفية بالخصوص، من أهمها «هيدجر وريبة الكينونة» الصادر السنة الماضية لهانس كوكلر، و»الامتلاك أو الوجود» لإيريك فروم). كما ألف نفسه في الفلسفة، ومن أهم كتبه في هذا الميدان: «دائرة فيينا» و»الكانطية الجديدة».
د. لشهب من طينة مغاربة «الدياسبورا» الذين حافظوا على علاقة وطيدة بوطنهم الأم، ليس بمنطق شوفيني أعمى، بل بوعي تام بضرورة المساهمة الإيجابية، كل في ميدانه، للنهوض بوطن محتاج لكل أبنائه وبناته. وقد ساهم لشهب بالفعل في هذا الأمر بانتظام حضوره الفكري في الساحة الثقافية المغربية، بنشر نصوص ودراسات متخصصة، وأيضا كتب ، في المغرب و بتنظيم ندوات ومحاضرات في جامعات مغربية متعددة والإدلاء بحوارات للإذاعات والتلفزات والجرائد والمجلات المغربية. وقد نشر مؤخرا كتابا شيقا تحت عنوان: «شرفات حوارية، في الفكر والهجرة وحوار الثقافات» عن دار النشر «النورس». وأتيحت لنا الفرصة لإجراء الحوار التالي معه.


n شرفات حوارية، في الفكر والهجرة وحوار الثقافات»، ما سر اختيار هذا العنوان بالضبط؟

p إن الإدلاء بحوار خاص عن حوارات أدلينا بها في ما قبل هو عبارة عن «ميتا- حوار»، وهو بمثابة إبستمولوجية لحوارات الكتاب، أي إلقاء نظرة نقدية على ما قلته في ما سبق. من هنا عنوان الكتاب: فالشرفة أو الشرفات (البالكون) يفشي سر التسمية، أي إطلالة حوارية على مواضيع الكتاب. كـ»الميتا»، أي «ما فوق»، فإن الشرفة تتيح إمكانية النظر والتأمل لما فوق الواقعي، أي التفكير في مواضيع الكتاب بالكثير من التركيز وسعة الأفق التحليلي والمعرفي.

n لماذا هذا الكتاب، في هذا الوقت بالضبط؟

p الكتاب من جهة توثيقي في المقام الأول، لكي لا تضيع مضامين الحوارات المُدلى بها. فقد تعلمت من العقلية الجرمانية أن التوثيق الفكري ينتمي إلى النشاط الفكري للباحث، إن لم يقم هو بنفسه بهذا التوثيق، فإن الشراح والموثقين اللاحقين قد يسيئون له. من جهة أخرى ضاعفت سنوات كورونا (السنة الثالثة على التوالي هذه السنة) ما سماه الراحل سبيلا بـ« ميثولوجية الأرض».
فبعد 35 سنة كنت أزور فيها المغرب 3 إلى 4 مرات في السنة، أشعر في زمن كورونا بأنني فُصلت عن موطني الأصلي قهرا، فلم أرجع منذ سنة 2019. إن ظروف الهجرة في زمن الجوائح، قاسية جدا، لا يشعر بها إلا من يعيشها فعلا.

n لمن توجهون كتابكم؟

p الكتاب موجه لعموم الباحثين والباحثات، وبالخصوص الشباب منهم، لأنه ينطوي على معلومات ومعارف في الميادين الثلاثة السالفة الذكر التي لم تفقد من أهميتها وراهنيتها، بل عُزِّزت بنتائج ما توصل إليه باحثون وباحثات آخرون. كما أنه موجه لعموم القراء، قد يجد كل واحد ضالته في الميدان الذي يهمه.

n ما الذي حدد اختياركم للميادين الثلاثة السالفة الذكر دون غيرها؟

p وضعي كمهاجر حكم هذا الاختيار في ما يخص «الهجرة» مثلا. فالهجرة ليست فقط الانتقال من بلد إلى آخر، بل هي وضع وجودي قائم بذاته، يعيشه كل واحد طبقا لمحددات مختلفة، ويتعايش معه كل واحد حسب إمكانياته النفسية والمادية والأسرية. وقد كان انشغالي وشغلي في الميدان الفكري هو المحرك الذي دفعني للاهتمام بالهجرة ووعي مشاكلها وتحدياتها والحظوظ التي قد توفرها إن انتبه المرء لها واستغلها بعقلانية وتبصر. وبين الفكر والهجرة يفرض حوار الثقافات نفسه، وهو حوار لم أعشه فكريا فقط، بل مارسته على أرض الواقع باستقدام مفكرين عرب للعالم الجرماني ومفكرين جرمانيين للمغرب، وأيضا القيام بمشاريع لصالح الشباب من الضفتين، ليكون الحوار بين بشر من لحم ودم، وليس على أوراق ومذكرات تُدرس في مكاتب البحث فقط.

n تحدثت في جوابك الثاني بنوع من النوستالجيا عن موطن نشأتك. ما الذي افتقدته في السنتين الأخيرتين؟

p أول ما افتقدته هو شم رائحة تراب قرية صغيرة (مطماطة) شمال المغرب في فصل الحرث، عندما تُمطر. افتقدت رؤية الأهل والأحباب والأصدقاء مباشرة واقتسام وقت جميل معهم. افتقدت الصباحات الصيفية لقريتي بين نباح الكلاب وصياح الديكة وآذان الفجر. بكلمة مقتصرة، اشتقت لمعايدة رؤية ملامح وطني الأصلي والتعمد مجددا بمياه سد إدريس الأول، الموجود تحت أقدام قريتي.

n كيف ترى سياسة المغرب في ما يخص الهجرة؟

p هناك بعض التحسن الشكلي الطفيف، لم يرق بعد إلى مستوى سياسة هجرة واعية تخدم الإنسان المغربي أولا وأخيرا. فإحداث ما يسمى بوزارة المغاربة في الخارج منذ سنوات لم يكن في العمق إلا «ماكياجا» سياسيا، لم يستفد منه المهاجر في أي شيء، لأن ما يصبو له المهاجر منذ عقود لم يتحقق: المشاركة السياسية المباشرة واختيار ممثلين عن المهاجرين في الغرفتين، كما تقوم بذلك دول أخرى «مصدرة» لليد العاملة (تونس، الجزائر، مصر مثلا)، مرافقة المهاجر في البلدان، حيث يسكن، ثقافيا واجتماعيا، والحرص على أن يكون اندماجه في البلدان حيث يعيش اندماجا واعيا متوازنا وليس هروبا من وكنة لفظته. التعامل مع الهجرة غير القانونية للمغاربة المتسكعين في العواصم الأوروبية دون أدنى ضمانات لكرامتهم وإنسانيتهم بجدية وإرجاعهم إلى بلدهم لكي لا تُلوث سمعة المغرب و سمعة المغاربة الذين يعيشون في ديار المهجر بطريقة قانونية.
باختصار، هناك ورشات عمل مفتوحة منذ وصول الجيل الأول إلى بلدان المستقبلة لليد العاملة، يظهر على أن المغرب غير قادر على الاشتغال عليها أو لا يريد ذلك.

n وماذا عن الفكر والحوار الثقافي؟

p استطاع الكثير من المغاربة فرض أنفسهم بطريقة إيجابية في ميادين معرفية وفكرية كثيرة جدا. وكل من وصل من المهاجرين والمهاجرات،
وصل إلى ذلك اعتمادا على نفسه واستفادة مما قدمته له دول الاستقبال. ليس هناك أي تنسيق واع للسياسة المغربية بين نخبتها المهاجرة، لبناء ما يمكن أن يسمى « اللوبي المغربي المهاجر» في ميادين مختلفة قد يفيد المغرب بممارسة نوع من الديبلوماسية الموازية للدفاع عن القضايا الكبرى للوطن. هذه خسارة كبيرة للمغرب. والجميل أن هذه النخب، واعتمادا على إمكانياتها الذاتية، نشيطة جدا في ميدان حوار الثقافات، وهذا رأسمال كبير للمغرب، إن أحسن توظيفه.


الكاتب : حاورته: زهرة العسلي

  

بتاريخ : 12/02/2022