د.مراد علمي، مغربي يدرس الأدب الألماني بالصين  3/3

الصين عرفت دوما كيف تحتضن ثقافات، حضارات وطقوس الآخر

خليل جبران ونجيب محفوظ الكاتبان الأكثر قراءة في الصين

 

نواصل في هذا الجزء الأخير من الحوار مع الدكتور مراد علمي، التعرف على مواقفه من :التعدد اللغوي، استعمال الدوارج، عزلة اللغة وعلاقته باللغة الأم، الغربة والرحيل، واقع وآفاق الترجمة في المغرب، أسرار التجربة الصينية في احتواء ثقافات العالم.

 

– أنتم اليوم تشتغلون أستاذا جامعيا للأدب الألماني بالصين، كيف تقرأون علاقة الصينيين بلغتهم؟ وكيف استطاعوا تحقيق هذه الطفرة الاقتصادية والعلمية رغم صعوبة اللغة الصينية ؟

-علاقة الصينيين بلغتهم ولو كانت صعبة فهي حميمية بامتياز، حيث يحبون أي شىء مكتوب بهذه اللغة، كما ترصد لها الدولة أموالا طائلة، وجميع معاهد «كونفوشيوش» والمراكز الثقافية الصينية عبر العالم أحسن دليل، فإذا كانت الأبجدية الإثنية تمحي كل «أثر تصويري» للمقصود، وبالتالي تشكل نوعا ما من التجريد، وتجاوز الذات والحقيقة والتفكير الشكلي، فالبعكس نظام كتابة اللغة الصينية لا يخلق أي مسافة بين من يكتبها والعالم الخارجي، بل يشير دوما إليه.
مثلا كلمة „لاواي“ تشير إلى كائن حقيقي من خارج الصين، أو من ثقافة جنوب شرق آسيا بما يعني خارج الحضارة الصينية، كما يتم وضع هذه العبارة أمام الألقاب للتعبير عن الألفة أو التقارب العاطفي، الاحترام أو المودة (على سبيل المثال ، „لاو لي»)، يعني أن هذه العبارة مرتبطة حتما بما هو خارج الصين وله علاقة مباشرة معه، كما لها وظيفة أخرى للعنصر، حيث نعين بها الأشخاص الموقرين والمحترمين، وهذه العلاقة وطيدة ومتجذرة في «القدم»، لأن معنى»لاو» هي «القديم» والمرتبطة أصلا بالعلاقة، وإن دلت على شيئ فهي تعني «القديم» أو المسن الذي يتميز بشيب الشعر، أحد علامات التقدم في السن، وهكذا نشأ الرابط بين «لاو» والأجنبي، يعني الموقر وصاحب الشعر «القديم»، يعني الأبيض.
أما في ما يخص تحقيق هذه الطفرة الاقتصادية والعلمية فهو راجع بالأساس إلى نقطتين مهمتين: أولا المهارات العالية وجيوش من اليد العاملة المقتدرة والمؤهلة التي تتوفر عليها الصين وتحرير السوق قصد النمو الاقتصادي المستدام تحت القيادة الحكيمة ل «دنغ شياو بينغ»، وهذا ما كان له تأثير بليغ في انخفاض هائل في معدلات الفقر، حيث استطاعت الصين أن تنقذ أكثر من 800 مليون مواطن من الفقر المدقع، والفضل يرجع في الأساس ل «دنغ» الذي قام بإصلاحات جذرية بعيدة المدى ورسم الخطوط العريضة قصد انتعاش وانفتاح السوق الداخلي والخارجي على جميع المستهلكين أينما كانوا، وهي التي أدت بالاساس إلى زيادة دخل المواطنين الصينيين، يعني الدولة قامت برسم الاطار، ولم تقم بتسديد مدفوعات للرعاية الاجتماعية أو مشاريع التنمية الفردية، يعني الفرد كان منذ البداية مسؤولا عن مصيره، عن فقره أو غناه.
كما واصلت بكين تحت قيادة دنغ رسم السياسات العمومية حول كيفية تطور البلاد، حيث كانت للحكومات المحلية قدر كبير نسبيًا من الحرية في اتخاذ القرارات المناسبة عندما يتعلق الأمر بالتنفيذ، وهكذا وجدت حلول محلية لمشاكل محلية، وهذه الطريقة تختلف تماما عن طريقة حكم ماوو، حيث كان المركز يتخذ جميع القرارات.
في عهد دنغ تطورت الحكومة المركزية من حكم مطلق إلى قيادة براغماتية ومرنة، حيث حدد دنغ الاتجاه المرغوب للتنمية فقط: يعني يجب أن يكون النمو الاقتصادي حقيقيا وفعليا، وأن ينفتح على الأسواق الخارجية، كما يجب تعزيز المبادرات الشخصية، وترك كيفية التدبير وتحقيق الأهداف على المستوى المحلي للمسؤولين المحليين ورجال الأعمال، لذا فإن نجاحات التنمية في الصين لم تكن مبنية على أوامر من أعلى إلى أسفل أو على الرقابة أو الضبط، هذه النجاحات كانت نتيجة لقابلية التكيف مع متطلبات السوق ومرونة النظام، ويمكن لنا أن نلخص السياسات العمومية تحت قيادة دنغ في قولته الشهيرة: لا يهم إذا كانت القطة سوداء أو بيضاء طالما أنها تصطاد الفئران.
لنلق نظرة موجزة على مثال دائرة صغيرة في مقاطعة تشجيانغ، كانت هذه الدائرة فقيرة في الثمانينات، كما هو الحال آنذاك في أجزاء أخرى من الصين، لم يكن هناك إطار قانوني حديث، الإصلاحات الأولى شملت تحسينات بسيطة بغية توفير بيئة مناسبة للاعمال، مثل تحسين حقوق الملكية الذي أدى إلى إنشاء مؤسسات صناعية جماعية مملوكة للدارئة والحكومة المحلية، حيث بدأ أهلها يصنعون حلويات، ألعاب أو ملابس بسعر أرخص من المنافسة في مدينة شنغهاي المجاورة، والتي كانت أيضًا أكبر سوق للمبيعات، على الرغم من أن بيئة الأعمال لم تكن مثالية، فقد نما الإنتاج الصناعي في المحافظة 33 أضعفًا بين عامي 1978 و 1993، نظرًا لأن العديد من الفلاحين السابقين يحصلون الآن على دخل أعلى في المصانع، وهكذا انخفض الفقر بشكل كبير.
فقد كانت الاصلاحات الخاصة بحقوق الملكية أمرًا أساسيًا، وإن لم تكن مثالية، لكنها جيدة بما يكفي لتحفيز رجال الأعمال على التوسع في السوق، كما سمحت الحكومة الصينية للمؤسسات الجماعية بالاحتفاظ بأرباحها، وهكذا استمر التطور في التسعينيات. وبناءً على طلب من بكين شرعت الحكومة المحلية في خوصصة الشركات الجماعية، وهكذا نشأ الجيل الأول من رجال الأعمال في القطاع الخاص، خلال هذا الوقت اتخذت الحكومة المقعد الخلفي، أقرب إلى نموذج عدم التدخل، في مطلع الألفية الثانية تغيرت الامور شيئا ما: حيث شكل الازدحام المروري وسوء التخطيط الحضري حجرة عثرة لمزيد من النمو، ثم بدأت الحكومة تتدخل أكثر، حيث أنشأت مناطق أعمال مركزية واستثمرت بشكل كبير في البنية التحتية، ويوضح هذا مدى تغير نماذج المقاربة التنموية في الصين، ليس فقط على المستوى المحلي ولكن على مستوى الدولة كذلك.
والاقتداء بالتجربة الصينية لا يجب أن يعني هذا تقليد الصين، فهناك جوانب سلبية لكل نجاح، مثلا الضباب الدخاني في بعض المدن الصينية الكبيرة نظرا لاستعمال الفحم لتزويد الصناعة بالطاقة المناسبة وتدفئة البيوت، لذلك يجب على الدول الأخرى أن تنتقي العناصر من الطريقة الصينية التي تتماشي والطقوس وبيئة الأعمال، كما يجب الاستغناء عن تلك المرتبطة بالنتائج السلبية، في الماضي تم تشجيع العديد من الدول النامية على تبني أفضل الممارسات الغربية، ولكن مع الأسف كانت النتائج مخيبة للآمال، لذلك لا يجب ألا يتكرر نفس الشيء مع الصين.

– وماذا عن علاقتهم بالآداب واللغات الأجنبية؟

– في ما يخص علاقة الصينيين باللغات الأجنبية فكثير من لغات العالم تدرس في الجامعات الصينية، بالأخص اللغة الانجليزية، وعلاقتهم بالآداب الأجنبية وطيدة كذلك، حيث تترجم كل سنة الآلاف من الكتب في هذا المجال، وسأقتصر فقط على الأدب الألماني والعربي الذي أعرفه شيئا ما.
يمكن لنا ذكر الكاتب، الشاعر ورجل الدولة «كوو موروو» الذي كان يلقب ب «جوته» الصين، حيث قام في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بترجمات قيمة من اللغة الألمانية إلى الصينية: كـ «آلام فرتار»”، «فاوست» لولفجان جوته، أو «فالان شتيان» لفريدريش شيلار أو «هكذا تكلم زرادشت“ لفريدريك نتشه أو «نقد الاقتصاد السياسي» لكارل ماركس، كما ترجم القصة الشهيرة «بحيرة إيمان» لتييودور شتورم.
كما ترجمت لاحقا العديد من الحكايات للاخوة «كريم»، و»هاوف»، و رواية «بودن بروكس» لتوماس مان، و»حان وقت الحياة والموت» ل «إي،ميم، ريماركه»و ترجمات أخرى لكتاب ألمان مرموقين كـ «بيرتولت بريخت»»، «آنا سيكارس» و «شتيفان تسفايك» الذي ترجمت كتبه عن كاملها في الآونة الأخيرة، يعني أكثر من 30 مؤلفا، ولم تقتصر الترجمة على هذه الاسماء، فنجد من بينها كذلك «هيجل»، «هاينريش مان»، «زيكفريد لانتس»، غونتر كراس» و»هاينريش بول» اللذين حازا على جائزة نوبل للآداب، «فريدريش دورنماط»، «كوتفريد كيلار» والاسماء لا تعد ولا تحصى، فهذا أحسن دليل على انفتاح الصين على الآداب الأجنبية بصفة عامة.
كما عرفت الترجمات من اللغة العربية إلى الصينية على يد أكاديميين ومهتمين بالشأن الثقافي ازدهارا كبيرا، بالأخص إذا أدركنا أن طريق الحرير القديم لم يكن مشروعا اقتصاديا محضا فقط، ولكنه ساهم في التلاقح والتقارب بين الصين والبلدان العربية، حيث قام بعض المثقفين الصينيين في القرن الماضي بترجمة أعمال جبران خليل جبران وعبدالرحمن الخميسي وحنا مينة والطيب صالح ومحمد شكري، ونظرا لشغف المثقفين الصينيين وحبهم للشعر ترجموا مختارات عديدة لشعراء عرب كأدونيس، سعاد الصباح أو فاروق جويدة، علينا أن لا ننسى حب الصينيين ل «ألف ليلة وليلة» التي عرفت إقبالا كبيرا في الصين حيث ترجمت على يد العديد من
المتخصصين، كما عرفت عدة طبعات متتالية نظرا للطلب الذي كان أكبر من العرض.
ويظل جبران خليل جبران ونجيب محفوظ الكاتبان الأكثر قراءة في الصين، نظرا
لحسهم، وبساطة لغتهم، عمق ونبل رسالتهم الكونية، أما الترجمات من اللغة الصينية إلى اللغة العربية يمكن لنا ذكر بعض المقتطفات ل «حلم المقصورة الحمراء»، لأن هذا المؤلف ضخم ويتوفر على أكثر من 1500 صفحة وأكثر من 700 شخصية، وتعتبر هذه الرواية من أجمل الروايات الكلاسيكية الصينية، وليومنا هذا لا يزال لهذه الرواية وقع كبير في الذاكرة الجماعية، حيث يبقى جميع المثقفين الصينيين مبهورين أمام جمالية هذا المؤلف الموسوعي، الأسلوب الجميل، والحبكة الفنية التي تسحر القراء.
كما قام بعض المتخصصين العرب بترجمة «فن الحرب» ل «سون تسي بين»، وأشعار للشاعر الصيني الشهير «لي باي» أو»دون بوو». الصين عرفت دوما كيف تحتضن ثقافات، حضارات وطقوسا أخرى، ولا يجب أن ننسى أنها تحتوي على أكثر من خمسين قومية، كما تتوفر بعض المقاطعات على الحكم الذاتي وحتى الأعياد تختلف في بعض الأحيان، ومرد هذا راجع بالاساس إلى غزو الصين لبلدان أخرى كما عرفت نفسها الغزو من طرف قوميات أخرى كالمنغوليين مثلا، وفي كل قرن تقريبا تعاقبت أسر ملكية مختلفة وتركت بعضا من ثقافاتها وإنجازاتها، واللغة والثقافة الصينية في تصاعد مستمر، نظرا للسياسات العمومية في هذا المجال والقوة الناعمة التي تدر الربح المادي والرمزي على اقتصادها ولغتها، والصين ترصد اليوم أموالا ضخمة بغية تعزيز القوة الناعمة عن طريق الإنفاق على الأدوات المدنية والشراكات مع المجتمع المدني في الخارج، واستخدام العملة الوطنية، يعني اليوان الصيني، والمبادلات الثنائية بين الصين والعديد من الدول لأحسن مؤشر على أن الثقل الإقتصادي العالمي لصالح الصين اليوم.


الكاتب : أجرت الحوار حفيظة الفارسي

  

بتاريخ : 29/08/2023