داريوش شايغان فيلسوف ومفكّر إيراني معاصر من مواليد 1935، تلميذ المستشرق هنري كوربان، دكتوراه دولة في الهندوسية والصوفية، أستاذ جامعي للفلسفة المقارنة، مدير المركز الإيراني للدراسات الحضارية، مدير معهد الدراسات الإسماعلية في باريس، كتب في الفكر والفلسفة وتخلف الحضارات والثقافات مركزا على ما اعتبره الوعي البائس لملايين أبناء الشرق الذين لم يزل سؤال صدمة الحداثة يؤرقهم.
صدرت له مجموعة أعمال باللغتين الفارسية والفرنسية من بينها “ما الثورة الدينية”، “النظرة المبتورة”، «أوهام الهوية»، النور يأتي من الغرب”… هنا ترجمة لمقابلة أجراها الصحافيان ألان فالاد وباتريس فان ونشرتها فصلية “نوفيل كليه” الفرنسية.
– ما هو شعورك في زمن الأزمات هذا؟
– تقول لعنة صينية: ” فلتعش في الأزمنة الهامة”! فبالنسبة إليهم، إنها لعنة، إذ يدرك الصينيون أن الأزمنة الهامة هي فترات اضطراب وارتباك. نحن نحيا اليوم إذن زمنا هاما جدا!
– بمثل أهمية عصر النهضة وعنفه؟
– تمتاز مغامرة الحداثة بجانبين، فهي من جهة إيجابية جدا لأنها تحرر الإنسان من تلك الوصاية المزدوجة التي يسميها كانط قداسة المقدس وجلالة السلطة. دون المغامرة “الفاوستية” (من فاوست) التي قام بها الغرب، ما كان الإنسان ليكون ما أصبحنا اليوم عليه: رعايا حق وقانون، ولكنا بقينا مؤمنين بعقيدة القرون الوسطى أو بالأمة الإسلامية. ابتكار أساسي، لقد أصبح الإنسان مؤسسا لذاته. الفصل بين السلطات، العلمانية، كل هذا حررنا. لكننا من الجهة الأخرى فقدنا العالم السحري والرموز ـ وهذا ما نسميه “انفكاك السحر” أو خيبة الأمل، وهو الجانب السلبي من الحداثة. لكن، كان لا بد للجانبين هذين من أن يتلازما.
– لكن هل تعني الحداثة الجميع بالقدر نفسه؟
– كان ليفي ستروس يقول إن الإنسانية عرفت ثورتين كبريين: ثورة العصر الحجري الأخير، والثورة الصناعية. لقد تم استيعاب الأولى من قبل كل الثقافات التاريخية الكبيرة في الكرة الأرضية، في حين أن الثانية لم تحدث سوى في مساحة ثقافية محدودة: إيطاليا، فرنسا، ألمانيا، إنكلترة… نحن، الإيرانيين الذين ننتمي إلى ثقافات غير أوروبية، لم نعرف هذه الصدمة إلا في نهاية القرن التاسع عشر.
بمعنى آخر، كنا خارج الموضوع كلية. حتى الإمبراطورية العثمانية التي كانت قريبة جدا من العالم الشرق أوسطي، لم تعرف أبدا الإصلاح ولا عصر الأنوار، ولم تأت ثورتها الصناعية إلا بشكل متأخر. كان هذا وضعنا أيضا في بلاد فارس، ويمكن قول الأمر نفسه عن الصين والهند.
من خلال دراسة هذه الحضارات الآسيوية الكبرى ، انتبهت إلى أنها كلها قد توقفت في القرن السابع عشر ـ الذي احتفظت منه بمخزون هائل من القيم والأفكار من حيث نهلت بشكل غير متناه.
غير أن القرن السابع عشر كان أيضا لحظة ابتداء شيء جديد. ديكارت!.. كان يجري الدخول في حقبة جديدة كما لو أن روح العالم انتقلت إلى مكان آخر، وكما لو أن أنطولوجيات (ontologies) العالم القديمة قد انهارت. بدءا من هنا، لم يعد هناك “عقل” أو “حقيقة”. الفيلسوف الإيطالي جياني فاتيمو يسمي الانهيار هذا “الأنطولوجيا الضعيفة”، أي أن الحداثة طردت سحرية العالم فراح الإنسان الحديث، رغم ثرائه وثقافته الواسعة، يعاني من فراغ روحي. الحداثة تعنى بالمشاكل الاقتصادية أو السياسية، غير أنها تهمل كل احتياجاتنا الأساسية.
– وكيف نملأ هذا الفراغ؟
– لقد لعب الأدب والفن دورا كبيرا، فأخذت الرواية على عاتقها ما كبته العلم. هذا ما يقوله ميلان كونديرا في “فن الرواية”. لكن ذلك كله يتغير حاليا. أعتقد أن ما نسميه في يومنا هذا “ما بعد الحداثة” هو بالضبط اللحظة التي أصبحت الحداثة فيها إيجازية تعيد استيعاب ودمج كل مستويات الوعي. وبما أنها تثق جدا بنفسها عند النظر إلى الوراء وإلى الأمام، فباستطاعتها ضم كل شيء. هكذا انبثقت الظاهرة التي تدعى اختلاط الثقافات، ذلك أنه تم استبدال انهيار الأنطولوجيات بعلائق داخلية بالمعنى الواسع للكلمة، تتضمن كل دوائر المعرفة وكل حالات الكائن. وقد تُرجم ذلك على مستوى الثقافة بالتعددية الثقافية، وعلى مستوى الهوية بهويات متعددة ـ ذلك أننا بتنا جميعا نملك عدة هويات؛ وما عاد بإمكان أحد أن يقول مثلا إنه فرنسي أو أميركي بشكل صاف. على مستوى المعرفة، يترجم ذلك بالتأويل: فأيا كان المجال، توجد مدارس فكرية مختلفة وبالتالي هناك نزاع بين مختلف التفسيرات ـ النزاع هنا لا يعني حربا، وإنما مبارزة، لعبا، حوارا… حتى على مستوى التكنولوجيا، مع الإنترنت، هناك التواصل الداخلي نفسه. الجذور والجذوع هذه تغذي وثنية تكنولوجية حقيقية. والعالم يصبح سحريا من جديد. كيف جرى ذلك ؟ هنا سأكون من أتباع يونغ: إذ أعتقد بوجود ظاهرة «دخول إلى الجوف». أي أن لا وعينا، وقد طردت الحداثة السحر من عالمنا، أصبح بركانيا وأجبرنا على القيام بإسقاطات جديدة أشبه بحمم جعلت في غليانها، “العالم سحريا” مجددا بالمعنى الحرفي للكلمة.
لكن حذار: السحرية هذه مختلفة جدا عن تلك القديمة! بما أننا نحيا في عالم ذي أنطولوجيات متفككة، فإن الصور والأساطير والرموز ما عادت تملك أرضية لاستقبالها كما في الماضي حيث كنا نعرف جيدا مثلا أين نركن الملائكة. اليوم، بإمكان الملائكة دون شك أن توجد من جديد، لكننا ما عدنا ندري أين نشاهدها، على أي مستوى وفي أية فئة نضعها.
وبما أنها ما عادت تملك أمكنة خاصة بها، فقد تحولت هذه الإسقاطات/الحمم إلى أشباح ـ من هنا تكاثر الشيع والطوائف والمذاهب والأديان الجديدة. هناك خلط هائل لجميع المعتقدات والأفكار. وهو أمر مهم وخطير في الآن نفسه.