دراسات قرآنية – 2- مصادر القرآن الكريم: قصة إبراهيم

التفكير في النص القرآني، وشرحه وتفسيره وحصر معناه، ليس انشغالا عربيا، فقد دأب المستشرقون، ومعهم الدارسون القرآنيون، على محاولة تفكيك الخطاب القرآني وارتياد علومه ومباحثه ولغاته، وتحديد نوازله ومفاتيح فهمه، وذلك في مواجهة التيارات الدينية التي تحاول فرض أساليبها بمنطق استغلاقي واحتكاري وإيماني، لا يستقيم الآن مع تعدد المناهج وطرق البحث العلمية التي تنبني على التشخيص والتحليل والتدقيق والتمحيص واستدعاء القرائن العلمية المادية والتاريخية.

 

نقد المرساة الثالثة: روايات الملوك الأربعة!

إنّ المادّة المحتواة في الإصحاح الرابع عشر من سفر التكوين هي الجزء الأكثر إثارة للجدل: “14: 1 وحدث في أيام امرافل ملك شنعار واريوك ملك الاسار وكدرلعومر ملك عيلام وتدعال ملك جوييم. 14: 2 أنّ هؤلاء صنعوا حربا مع بارع ملك سدوم وبرشاع ملك عمورة وشناب ملك ادمة وشمئيبر ملك صبوييم وملك بالع التي هي صوغر. 14: 3 جميع هؤلاء اجتمعوا متعاهدين إلى عمق السديم الذي هو بحر الملح. 14: 4 اثنتي عشرة سنة استعبدوا لكدرلعومر والسنة الثالثة عشرة عصوا عليه. 14: 5 وفي السنة الرابعة عشرة أتى كدرلعومر والملوك الذين معه وضربوا الرفائيين في عشتاروث قرنايم والزوزيين في هام والايميين في شوى قريتايم. 14: 6 والحوريين في جبلهم سعير إلى بطمة فاران التي عند البرية. 14: 7 ثم رجعوا وجاؤوا إلى عين مشفاط التي هي قادش وضربوا كل بلاد العمالقة وأيضا الأموريين الساكنين في حصون تامار. 14: 8 فخرج ملك سدوم وملك عمورة وملك ادمة وملك صبوييم وملك بالع التي هي صوغر ونظموا حربا معهم في عمق السديم. 14: 9 مع كدرلعومر ملك عيلام وتدعال ملك جوييم وامرافل ملك شنعار واريوك ملك الاسار أربعة ملوك مع خمسة. 14: 10 وعمق السديم كان فيه آبار حمر كثيرة فهرب ملكا سدوم وعمورة وسقطا هناك والباقون هربوا إلى الجبل. 14: 11 فاخذوا جميع أملاك سدوم وعمورة وجميع أطعمتهم ومضوا. 14: 12 وأخذوا لوطا ابن أخي أبرام وأملاكه ومضوا إذ كان ساكنا في سدوم. 14: 13 فأتى من نجا وأخبر أبرام العبراني وكان ساكنا عند بلوطات ممرا الأموري أخي أشكول وأخي عانر وكانوا أصحاب عهد مع أبرام. 14: 14 فلما سمع أبرام أن أخاه سبي جرّ غلمانه المتمرنين ولدان بيته ثلاث مئة وثمانية عشر وتبعهم إلى دان. 14: 15 وانقسم عليهم ليلا هو وعبيده فكسرهم وتبعهم إلى حوبة التي عن شمال دمشق.14: 16 واسترجع كل الأملاك واسترجع لوطا أخاه أيضا وأملاكه والنساء أيضا والشعب».
إن ذكر شخصيّات وحوادث كثيرة في المقطع السابق والتي كنّا نتوقع أن تظهر في روايات أخرى من خارج الكتاب المقدّس جعلت من هذا المقطع محط اهتمام خاص. والعديد من الباحثين ينظرون إلى هذه الرواية على أنها من زمن متأخّر ولا أساس تاريخيا لها؛ وفي بداية القرن العشرين تمّت محاولات لتحديد هويّة الملوك الأربعة (أشهر تلك المحاولات المطابقة بين أمرافل وحمورابي، ملك بابل) رفضت الآن عموماً على أسس فيلولوجيّة وتاريخيّة.
من جهة أخرى، فرواية الملوك الأربعة لا علاقة لها بأي مصدر tradition من مصادر سفر التكوين؛ وبرأي اليسوعيين، في هوامشهم على القصة في النص العربي، الرواية مأخوذة عن وثيقة قديمة نقّحت وكيّفت لإبراز دور أبراهام البطولي في الحرب. وكنّا قد أشرنا، أثناء حديثنا عن فلهاوزن، إلى أن هذا النص مضاف من الزمن الهلنستي.
وحتى لو سلّمنا جدلاً بوجود الملوك الأربعة الذين يتحدّث عنهم التكوين، فإنه ما من دليل على الإطلاق يشير إلى تحالف هؤلاء الملوك الأربعة ضد أبراهام المزعوم، هذا إذا كانوا متزامنين أصلاً. كذلك لا يعقل أن يهزم أبراهام، بجيشه المكوّن من 318 شخصاً، كما يقول التكوين، جيوش ملوك أربعة قد يصل تعداد مقاتليها إلى عشرات آلاف البشر!

نقد المرساة الرابعة: الختان!

سوف نتناول الآن مسألة عرف الختان، الواردة في قصة أبراهام، من سفر التكوين: ” وقال الله لإبراهيم: وأنت فاحفظ عهدي، أنت ونسلك من بعدك مدى أجيالهم. هذا هو عهدي الذي تحفظونه بيني وبينكم وبين نسلك من بعدك: يختن كل ذكر منكم. فتختنون في لحم قلفتكم، ويكون ذلك علامة عهد بيني وبينكم ” (تك 17: 9 – 11).
هذه حتماً إضافة أخرى متأخّرة لأسطورة أبراهام. فنحن نعرف أنّ الختان كان يمارس على نطاق واسع في العصور القديمة في بلاد الهلال الخصيب؛ والمصريّون والكنعانيّون، أي الشعبان اللذان يفترض أنهما الأكثر احتكاكاً مع أبراهام، كانوا يمارسون هذا الطقس. من هنا فالسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف يمكن ” للختان ” أن يكون علامة العهد بين الله وأبراهام إذا كان الجميع يمارسونه؟ فقط أثناء السبي، أي القرن السادس ق.م.، كان باستطاعة هذا العرف أن يميّز بين اليهود وغير اليهود: فالبابليّون لم يكونوا يمارسون هذه الشعيرة. إذن فقصة الختان كعلامة للعهد بين لله وأبراهام هي أيضاً ميثولوجيّة.

نقد المرساة الخامسة: مدينة جرار الفلسطينيّة!

سوف نناقش هنا القرة التالية من سفر التكوين (1:26)، المتعلّقة بإسحق، ابن أبراهام: ”وكانت في الأرض مجاعة غير المجاعة الأولى التي كانت في أيام إبراهيم، فمضى إسحق إلى أبيملك، ملك الفلسطينيين في جرار”. نلاحظ الآن أنّ إسحق ولد كما هو مفترض حين كان أبراهام في عامه المئة (تك 21:5). وهكذا فالقصص المرويّة آنفاً عن ملك جرار هذا، لا بدّ أنها حدثت في مكان ما بين القرنين الرابع والعشرين والخامس عشر قبل الميلاد، اعتماداً على التاريخ الذي نراه الأنسب لموضعة أبراهام في الزمن. لكن الأدلّة الأركيولوجيّة الواضحة تظهر أن الفلسطينيين لم يستوطنوا الشريط الساحلي حتى بعد القرن الثالث عشر ق.م. وتظهر الكشوفات الأثريّة في جرار (اسمها الآن تل حرور شمال غرب بئر السبع) أن البلد لم تكن أكثر من قرية صغيرة غير ذات أهمية أثناء الاستيطان الفلسطيني البدئي في العصر الحديدي الأول (1150 – 900 ق.م.). ولم تصبح جرار مدينة ذات أهميّة إلا في القرن السابع ق.م. من هنا يمكن القول إنه لن تكن هنالك جرار ولا ملك للفلسطينيين يمكنه أن يلتقي مع إسحق وقبله أبراهام خلال الفترة الزمنيّة التي يقال إنهما عاشا فيها!
من هنا، يمكن أن نصل مع توماس تومبسن، أستاذ العهد القديم في جامعة كوبنهاغن، إلى النتيجة التي تقول، إنه إذا أظهر أنّ هذه الإشارات النوعيّة في قصص الآباء ليست أكثر من خلط تشويشي، فهي إذن لا تضيف أيّ شيء إلى القصص؛ لكنّ هذه الإشارات بالذات كانت المراسي التاريخيّة التي يفترض أنها هي التي أرست دعائم تلك الحكايا في الموضع الأوّل. ودونها كيف باستطاعتنا التمييز بين هذه الروايات وأية حكايا فولكلوريّة ميثولوجيّة صرفة؟


الكاتب : نبيل فياض

  

بتاريخ : 11/06/2020