دراسة في «الشوارع» لمحمد الشايب جمالية اللغة والرحلة في ماهية الذات

صدرت عام 2016 للقاص محمد الشايب مجموعةٌ قصصية ضمن منشورات سليكي أخوين بطنجة، وقد اختار لها عنوان “الشوارع”. يتضمن هذا العنوان جملةً من التِّيمات التي تتقاطع وتتداخل في ما بينها، وهي على النحو التالي: الطريق، السياحة، السفر والرحلة. ولعل أهمَّ مفتاح لكل هذه الموضوعات هو مفتاح الذات، الذات التي تبحث عن المجهول والمفقود من خلال رصد حركة الجسد والروح؛ أي التجوال.

ومن هذا المنطلق سنقارب كيفية اشتغال المعنى عبر البحث في ماهية الذات من خلال هذا المُنْجَزِ الجمالي المتفرد. إنها الرحلةُ التي تعلو على المكان الملموس لتعرِّج على أمكنة متوارية في الذاكرة والوجدان، والبحث المتواصل عن ماهية الذات التي جعلت شعارها الوجودي قولة جمال الغيطاني: “يا خَوفِي أن أكون مغرما بالبعيد”. وسوف نحرك قطار مقاربتنا وفق محورين، هما: تمثلات الذات في الشوارع وجمالية اللغة.

1. تمثلات الذات عند محمد الشايب

يستهل القاص مجموعته القصصية بالبحث عن الحرية فيقول: “لا أيتها البعيدة، البعيدة بكل المعاني، والمعاجم، واللغات … لا أتزود بزاد، ولا يقاسمني وحشةَ الطريق رفيق … الشارع شوارع، وأنا تائهٌ في أمواجه المتلاطِمة”.1 تفصح ذات المبدع عن نفسها من خلال الوجود الذي يُعَدّ جوهرَ الرحلة التي تروم طلب البعيد (الحرية)، إغراء خفي تمارسه سلسلة احتمالات تَعِد بها الأمكنة والأحداث التي تُعَد مغامرة للذات، إذ نجد الكاتب يبحث عن الحرية في السوق، وفي الملعب، وفي محطات الأسفار، وقرب المساجد والأضرحة، حتى أدمى المسير قدميه وأخذ منه التعب مأخذه دون تحقيق هدفِه المنشود وغايتِه المتوخاة. من هنا يتضح أن ذات الكاتب تستشرف رؤيا جديدة للكون، وهذا المنظور الوجودي القائم على مجازفة وجودية هو ما يشكل سمات الذات التي تُنْتِج إبداعا بمواصفات جمالية متميزة، لأن التقاطعَ بين الواقعي والمُتَخَيل هو ما يميز شوارع محمد الشايب، إذ تتضح بجلاء واقعية الكاتب من خلال توظيف الشخصيات التي تمتح من فضاء البادية وواقعها الحرفي، مثل: قدور بائع الحلزون، وعلال بائع الإسفنج، وصفية بائعة الرغيف والحرشة، وميمي بائعة الهوى، وخدوج أم العروس طامو، والعريس عبد القادر العامل بضيعة العنب، هذا فضلا عن استدعاء التراث من خلال الطقوس الاحتفالية المصاحبة للعرس المغربي بمنطقة الغرب ونقصد هنا فنَّ الهيت.
بيد أن الذات لا تسافر عارية متجرِّدة، بل تصحب معها مرجعياتِها التي تبحث بواسطتها عن القيم. يقول الكاتب: سافرت مزودا بزاد الدهشة في طرقات البدء والمنتصق، أطللت على فصولي الأولى، وظللت أقرأ سطور أيامي ….2
إن المرجعية التي تسكن الذات وتصنع تلقيها تتوغل في عمق التراثِ والبحثِ عن القيم النبيلة التي غَدَتْ مفقودةً في العصر الراهن.
وما دمنا تحدثنا عن الذات منظورا إليها من حيث مخزونُها التراثي من القيم، خليق بنا أن نشير في سياق آخر إلى ما تشكله معايشة الواقع. يقول محمد الشايب أثناء تجواله في ساحة المسافرين بمدينة القنيطرة، حين شاهد أحد المتخاصمين ينزع ثيابه ويصرخ: “هاذ القنيطرة، خواوها مريكان والفرنسيس وعمرها لعروبية” 3. يتضح أن المبدع يُفْصِحُ بجلاء عن قبح الواقع ودمامته مسلطا الضوء على حياة المشرَّدين والمجرمين. “بعدوا لهيه اشماكرية. نستشف أن الكاتب يكتب عن قاع المدينة الاجتماعي، مركزا على حيوات الهامشيين والمهمَّشين في الحياة، “أشياء كثيرة تجري في الخفاء، أمواج هادرة لا تراها الأعين، ولا تسمعها الآذان، ما خفي في الساحة أعظم، هي ساحة المسافرين، هي ساحة المجانين، هي ساحة العشاق، هي ساحة المشرَّدين، هي ساحة كلِّ ألوانِ الفقر، هي ساحة كلِّ شوارع الَّتيه”.4
ورد عند غاستون باشلار على لسان الباحثة “ماري بونابارت” أن هناك أغنيةٌ عميقة تشدُّ الإنسان إلى الطبيعة،5 ولهذا نجد الكاتب محمد الشايب يحفل بسمو المكان والطبيعة وذلك في فصل الربيع الذي يشكل معادلا موضوعيا لمختلف القيم الجمالية الإيجابية التي يصبو إليها. لنقرأ في القصة الأخيرة الموسومة بعنوان “محاولة هروب” المقطع الآتي: “ابتسمتْ، فأطل هلال خصب، وجرى شبق مجنون، وتدفقت ينابيعُ مغرية، وقصفت طبول، وهبت أنغام، وهطلت أمطار…، ابتلعتني عواصف اللذة، وجرفتني سيول المتعة” 6. ولعل هذا السمو بمرادفاته وبمستوياته المتعددة، قد أسهم في تعميق النزعة الفوقية، التي يستشعرها المتلقي في هذا المنجز السردي.
إن المتعة أو اللذة الجمالية التي تقترحها هذه التجربة أمام المتلقي، من خلال هذه المتوالية المعجمية، هي متعة الزهو أو التعالي الذاتي، ومن المفيد أن نشير إلى أن رؤية العالم، عند محمد الشايب، تتقاطع مع رؤية العالم عند الفلاسفة، إذ منّى الإنسان النَّفْسَ منذ القدم بمدينة فاضلة تُنْهِي التاريخ وتُتَوِّج نهايتَه بانتصار عادل، يجعل من العالم المرغوب نقيضا كليا لعوالم الإنسان المثقلة بألوان الحيف والاضطهاد التي لا تنقضي. وهنا نستحضر حلم أفلاطون بمدينة مثالية يقودها الفلاسفةُ في القرن الرابع قبل الميلاد، وكتب توماس أمور أفضل الجمهوريات، واليوم نجد هذا المنجز السردي لمحمد الشايب ينطوي على رؤيا للعالم خاصة بالمبدع، رؤيا شاملة تضبط العلاقاتِ، إنه صورةٌ لمجتمع مختلف يعارض المجتمعَ القائم بمؤسساتِه ورموزِه ونظامِ قيمه، إذ لا رؤيا بلا تصور شامل يمزق المجتمعَ القائم، وينقضه بآخر قوامُه فكرة الدَّعة التي تغمر الجميع.
استطاع القاص أن يجسد منظورَه ورؤيتَه للعالم، وذلك من خلال الذات التي تخلق المسافة الضرورية التي يحتاجها الإبداع لتؤثر وتقنع، فالإبداع ذريعةٌ جماليةٌ لمنح تأشيرةِ البوح والتعبير دون خوفٍ ورهبة، إذ الرحلة توتر وجودي يخرج الذات من رحم ما تألفه إلى فضاء الاحتمالات اللامتناهية. فالكاتب يستلهم الرمز (×) التائه في الشارع المنسي، وفي غضون هذا التيه والسلو، “يشتاق إلى حُضْنٍ دافئ يلوذ إليه هربا من التعاسة، وإلى استراحة ينعم فيها بنوم عميق”. 7
إن كلَّ تأمل في مظاهر الكون، يعني في عمقه تعويضا لغياب مؤلم، وملأً لفراغ ينخر كيانَ الإنسان ووجدانَه، وهذا ما نستشفه من خلال الأوصاف التالية: شارع عابس لا يبتسم، شارع مريض، شوارع الليل، شوارع الجنون، شارع مجنون. فالإنسان حينما يحب واقعا ما، فهذا يعني أن ذلك الواقع يشكل روحا أو مبدأ حيويا، يعود به إلى ماض سحيق وقديم جدا، حيث الواقع يشكل، في الآن ذاته، ذكرى من الذكريات. وهذا ما نلمسه في شارع الغريب حيث استدعاء التراث المتجسد في طنجة ومكناسة وأغمات وإشبيلية، وابن تاشفين وابن عمار.
إن التجوال في هذه الشوارع، التي نسج خيوطها القاص محمد الشايب، يعد رحلةً في المكان من خلال المقروء ورحلةً في المكان من خلال المشاهدة التي تمثل ثنائيةً تعيها الذات وتعيشها إما لذةً أو حسرةً أو سؤالا. يتضح أن الذات تَفْحَصُ شكل التطابق بين صورةٍ جميلة في الذاكرة وصورةٍ قاتمة يجسدها الواقع المعيش، حتى أن الذات تخشى على بريق الصورة المُشَكَّلَة في الذاكرة. تبعا لهذا كله نستشف أن الشوارع لمحمد الشايب هي بحث مُضْنِي عن ماهية الذات وأن حركةَ النص لا تسير إلا في الذات. الذات التي تصبح مجالا يكتشفه القارئ ويسافر فيه.
2 – .جمالية اللغة

تعد اللغة ماهية الأدب، وهي القاعدة التي يقوم عليها فعل الإبداع القولي، كما تعتبر المادة الخام لكل الأنواع الأدبية، نثرية كانت أم شعرية، وعليه يكون الأدب رسالة فنية تختلف عن الرسائل اليومية التي تتم وفق اللغة العادية. وفي هذا السياق يرى “مارتن هَيْدِجر  Martin Heidegger” أن اللغة تكون “حيث يكون عالم (…) وحيث يكون عالم يكون تاريخ، واللغة من هذه الوجهة تضمن للإنسان أن يكون على نحو تاريخي، فهي ليست أداة جاهزة، بل بالعكس إنها تلك الحادثة التي تملك بين يديها أعلى إمكانات الوجود الإنساني”.8 وما تعرفه اللغة من دينامية في الزمان والمكان، هو ما يجعلنا نؤمن بأن “الشوارع” تجربةٌ إبداعية للقاص محمد الشايب تنقل انفعالاتِه ومشاعرَه ومواقفَه إلى الآخرين. وذلك بالاعتماد على قوة التصوير والتمثيل والإيحاء، ولذلك تتعدد الألفاظ والصور والأساليب بتعدد المواقف والانفعالات.
ومن هذا المنطلق سنخصص المحور الثاني من دراستنا للبحث في مكونات وتمظهرات اللغة الإيحائية في علاقتها بسياقاتها المتباينة قصد اقتحام العوالم العميقة لجسد المجموعة القصصية، وتحديد طرائق بنائها الدلالي، كما سنعمل على إظهار قدرة ومهارة المبدع المحتفى به في صناعة المعنى، ليبتكر صورا بلاغية خلَّاقة.
يستلهم الكاتب الرمز (×) في قصة كم مطرقة في الرأس؟ ليفصح عن الخطوب وتكاليف الحياة اليومية التي يكابد لواعجها الإنسان المنسي التائه في الشوارع، حيث التفكير في الابن المشلول والزوجة المريضة والأخ المعتقل والوالدين الطاعنين في السن، ليتضح أن هذا الرمز لم يتنسم رائحة الفرح ولم يخلد إلى الراحة منذ زمن بعيد.
تفصح الذات عن نفسها من خلال لغتها ومن خلال الوجه البلاغي الذي تحكي به علاقتها بالعالم والأشياء والقيم. وأثناء بحثه عن القيم المفقودة يجابه الكاتب جملةً من العراقيل التي توضحها الصورة التالية: “الأرض تئن تحت وطأة العراء”. 9 “عبس الشارع في وجهه، وابتسمت أشجاره، صفعته صفحات، وشَمِله عطف كتب”.10 بيد أن الشارع المعلوم غدا مجهولا، إذ تغير اسمه ولونه … وجفت كؤوسه، شاخت أشجاره، وهاجرت لقالقه ولم تعد … شارع صامت لا يتكلم، حزين لا يفرح، جائع لا يشبع، فأس لا يرحم”. 11
إن الضحك الشعبي الذي احتفى به باختين، إلى تخوم الإفراط، لم يكن إلا مرآة للحرية التاريخية المشتهاة. وشهية محمد الشايب تكمن في الكتابة الإيحائية التي تفضح وتعري، إنها تصنع المكان الجوهر، المكان كما ينكتب في الذات. وهذه اللغة الفاضحة بانزياحها يقدمها لنا المقطع التالي: “موحى لا يهمه أن يمسخ قردا أو قطا، الأهم عنده أن يسبح ويخرج سالما، يستهويه العوم، ولا يحب الغرق … ظل يسأل نفسه الأمارة بالعوم، وينظر إلى النهر الفاتن، … فارتمى رغم الوعد والوعيد، في أعماق النهر، وارتوى من مائه العذب، سبح فيه ولم يمسخ قردا كما قيل له، لكنه مسخ سمكا لا يستطيع العيش خارج ماء النهر بالذات”.12 إن كتابة الحياة تتحقق من خلال الإيحاء، فهو الوجه البلاغي الذي به تدرك الذات واقعها وبه تنقله، ليس مجرد اختيار أسلوبي وتعبيري، إنه ملمح وجودي عميق وجزء من البحث في كنه الذات ورغبة جامحة في الكشف عن الغموض الذي يطبع حياة الناس.
يتضح بجلاء أن حركية المجموعة القصصية “الشوارع” تتوزع على عالمين اثنين: أولهما عالم الواقع وما فيه من وحدة واغتراب، والثاني عالم الخيال وما تضمنه من حرية وانطلاق. إذ يرى جاك دِريدا أنه لا بد من الغياب الخالص لكي يتم إعلان الحضور، وبهذه العملية يتحقق الإلهام/ العمل الإبداعي، وتنكشف الأشياء من خلال اللغة. بتسمية اللاشيء الجوهري، أو معنى المعنى، كما ورد لدى عبد القاهر الجرجاني، فالغياب الذي ينسبه دِريدا إلى العملية الإبداعية هو ما يستدعي الحضور الإلهامي للنص والقارئ حين يعلن النص عما كان منطوقا، ويصمت كما يرى ميشيل فوكو، وهو أيضا تقنية الكلام المتحايل التي اعتمدها أرسطو طاليس على وجود محتمل معين وصفه.13
ومن ثم نستطيع القول إن المجموعة القصصية “الشوارع” مكون إبداعي/ تخييلي غير محدود، وزمانه أيضا لا نهائي، تنتفي فيه كل الأبعاد، وتتجسد فيه الرؤية الممتدة إلى ما لا نهاية.

على سبيل الختم

على ضوء ماتقدم، نستنتج أن متن الشوارع هو بحث في ماهية الذات بتجلياتها وقيمها، حيث المكان مجرد مطية أو ذريعة لسبر أغوار الداخل والسفر بغواية السرد المكتسبة من تجربة الكاتب في سياق إسراء ومعراج في فضاء الذات. فشوارع محمد الشايب غواية جمالية عرفت كيف تنفذ لأسرار المكان ومجازات الذات. كما أن الكاتب حرر الزمن من مكانه والمكان من زمنه مطمئنا إلى إشارات تقنية تكمن في القطار والنهر والشوارع الزاخرة بالأضداد. فضلا عن هذا كله نجد لغة “الشوارع” طاقة حافلة بالحياة والحركة والإيقاع والإيحاء، تستمد قوتها من كونها تتجاوز العادي المألوف، لتستبق الزمن المباشر بكثافتها الرؤيوية وأبعادها الجديدة. فالمبدع محمد الشايب يتقن أساليب اللغة الإيحائية بهدف تبليغ رسالته، لأن جدلية الإنتاج والتلقي أصبحت تشكل اختيارا منهجيا إجرائيا وفعَّالا يستخلص صور الممارسة الإبداعية، انطلاقا من قطبها الجمالي المتمثل في التأثير الذي تحدثه في المتلقي، وتجعله يصدر حكما معينا على قيمتها الفنية، بما يساعد على معرفة القيمة الجمالية لهذا المنجز السردي الذي يعد مأوى لتجربة روحية ذوقية، ولطموح إبداعي يطمح إلى التميز والتفرد.

هوامش
1 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 05.
2 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 73.
3 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 18.
4 – نفسه، ص. 18.
5 – Gaston Bachelard, la poétique de la rêverie, éditions Gallimard, paris, 1986, p: 156.
6 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 74.
7 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 26.
8 – مارتن هيدجر، في الفلسفة والشعر، تر: عثمان أمين، الدار القومية للطباعة والنشر، القاهرة، 1963، ص، 85 – 86.
9 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 31.
10 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 32.
11 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 41.
12 – محمد الشايب، الشوارع، ص. 54.
13 – عبد الله الغذامي، المشاكلة والاختلاف، المركز الثقافي العربي، بيروت، 1994، ط.1، ص: 102.


الكاتب : د. عز الدين المعتصم

  

بتاريخ : 14/06/2018