بين موضوعة السأم واستلهام تقاليد الأدب القيامي
ديوان «رصيف القيامة» للشاعر والروائي والإعلامي ياسين عدنان ، تم طبعه أول مرة سنة 2003 بدار المدى بدمشق سوريا، والطبعة الثانية سنة 2005 بدار مرسم بالرباط والطبعة الثالثة بدار التوحيدي بالرباط سنة 2010 ، كما صدر ضمن كتاب مختارات شعرية « الطريق الى النار» عن الهيئة المصرية للكتاب سنة 2018 ويمكن اعتبارها طبعة رابعة ، وهو حسب عدد من النقاد تضمن كل التيمات التي طورها الشاعر في مجاميعه الشعرية، بدءا من ديوان «لا أكاد أرى» والذي يعد باكورة أعمال ياسين وإن تأخر نشره، وهذه الورقة هي رصد لأهم فقرات الدراسة التحليلية للناقد المتميز محمد أيت لعميم.
اعتمد الأستاذ الناقد محمد أيت لعميم في إنجاز ورقته البحثية حول ديوان «رصيف القيامة» ، على ركيزة أساسية تتجلى في علاقة الصداقة الوطيدة التي جمعته بالشاعر ياسين عدنان لمدة تزيد عن عقدين من الزمن، حيث أتاحت له الاقتراب منه ورصد ملامح عامة في شخصيته، والغوص في عوالمه وترسبات تجربته الإبداعية والإنسانية. واعتبر الناقد ايت لعميم في دراسته التي وضع كعنوان لها «رصيف القيامة: بين موضوعة السأم واستلهام تقاليد الأدب القيامي» أن ديوان «رصيف القيامة» هو عنوان مستمد من قصيدة تشكل بؤرة تجعل القصائد الخمس التي سبقتها عبارة عن مقدمات وهوامش على النص المركز، حيث هيمن فيها السرد والمشهدية وصور الموت والدمار مع إضفاء مسحة سوريالية عليها مستمدة من لوحات سلفادور دالي.
وقد قام الناقد بتأطير الديوان ووضعه ضمن تقاليد الأدب القيامي الذي يمتح من النصوص الدينية ومن مشاهد القيامة وحكايات المعراج ومن النصوص الكلاسيكية كـ»رسالة الغفران» و»التوابع والزوابع» و»الكوميديا الإلهية» وغيرها. وقد تساءل أيت لعميم عن دواعي وتداعيات قصيدة «رصيف القيامة»، حيث اعتبر أن الشاعر لم يكن يعمل على محاكاة الكتابات القيامية، بل هي محاولة لاستكناه اللحظة الراهنة، وما تحبل به صور الموت والدمار والخراب.
فالشاعر في «رصيف القيامة»، يؤكد الناقد، يعيد إنتاج الموضوعة المركزية للشاعر الفرنسي الكبير بودلير في «أزهار الشر» حيث السأم والألم والقلق والملل واليأس، والبحث عن مجهول يتعذر إدراكه. فحتى الحب في «رصيف القيامة» يتلاشى ويتعفن. ففي قصيدة «بحيرة العميان» يستهلها بمقطع: هناك قرب بحيرة العميان / حيث كنا نلتقي/ تنبت زهرة سوداء. كما يستحضر الناقد لجوء الشاعر إلى تقنية البورتريه من أجل التقاط وضع إنساني في لحظات ضعفه ومفارقاته، وقد تجلت هذه المفارقة في قصيدة «صيادون بقمصان الحصاد»، فالعنوان ذاته يحيل على هذه المفارقة بين الفلاح المرتبط بالبر والصياد المرتبط بالبحر.
والمرارة والسأم واللاجدوى والرغبة في العمى، ستجد حسب الناقد تجلياتها القصوى في قصيدة «رصيف القيامة» التي اعتبرها أقوى نصوص الديوان، حيث انعكست فيها تشابكات تجربة الكتابة وكتابة التجربة. فقد عمل الشاعر على الكتابة المشهدية والمقطعية، ومجليا لروح الأدب القيامي الذي يروم استشراف الضفة الأخرى لنهر الحياة، وتتحول فيه الرؤيا إلى إدانة للممارسات الشاذة بطريقة ضمنية وبلاغية متلثمة. ففي عوالم «رصيف القيامة» يتخيل الشاعر القيامة فضاء يضم الأدباء والساسة والملوك والسحرة والمعطلين والجواسيس وباعة السجائر وأهل الكهف والعشاق والصبيان وحاملات الطائرات و….راصدا انصراف الشاعر إلى مزج العالم والأزمنة والأمكنة في إطار مجموعة من التيمات الدلالية، بغية إحداث مفارقة مبطنة بالسخرية، ممارسا نقده بطريقة مضمرة لشخوص وممارسات وسلوكات في إطار شبكية المعنى والتأويل، مبرزا أن أغلب الصور الشعرية المتضمنة في القصيدة ذات طابع سوريالي، تداعت له من خلال مشاهداته وتخيلاته ومن خلال مقروءاته للقرآن الكريم ومشاهد القيامة فيه وحتى من خلال مقروئه الطفولي( بوكماخ).
كما حاول الناقد الحفر، عميقا، في ثنايا قصيدة «رصيف القيامة» ورصد تأرجح استهلالها بين القيامة الأرضية والقيامة الأخروية بين الحضور والغياب:
كنت أظن وأنا أعبر شارع الموتى/ أن القيامة مجرد حكاية في كتاب/ حتى جاءت الساعة بغتة/ وانفلقت الجبال العظيمة عن فئران صغيرة سوداء. فبعد هذا الاستهلال الذي يشرع القارئ على أفق الانتظار على عوالم الموتى ومشاهد القيامة، مستعرضا شخوصا من التاريخ المعاصر والحاضر بصيغة تكرارية، مقترضا هذا التركيب من إيحاءات النص القرآني « وجاء ربك والملك صفا صفا» وجاء أدونيس وادعى أنه المتنبي/ وجاء عبد المنعم رمضان فسألته العصفورة عن نار/……وجاء ابن سرين عاريا من أحلامه.
فبعد هذا الاستعراض الذي انبنى أسلوبيا على تكرار صيغة بعينها سمحت للشاعر أن يستقصي مؤثثات عالمه ، وأن يوسع دائرة إشباع المعاني المتحصلة عن مجموع الاستعارات والكناية، من خلال أسماء لها رمزيتها وحضورها في المشهد الشعري والسياسي المعاصر، لتنتقل بعد ذلك حركية القصيدة إلى تخوم مشاهد المسخ والتشوهات التي شملت الأجساد الأدمية، بل حتى الأشياء المألوفة فقدت هويتها وطعمها:
لم نعد قادرين على الفرح/ ولا على التعب من الوقوف/ لأن أرجلنا تقلصت بالتدريج…
هذا التحول الجسدي الذي صاحبه تغير في اللغة والقيم والأحاسيس، أفضى حسب الناقد إلى تحول في الإدراك وتحييز الأشياء حيث امتزجت الرؤى وسجلات القول المتضاربة في القصيدة نفسها.بل إن الناقد يحلق بعيدا في تحليله، حين يؤكد أن قيامة ياسين لها منطق هذياني تختلط فيه الأزمنة والأمكنة والشخوص لا يفك طلاسم تجاذباتها ومفارقاتها سوى سيادة الظلام، لتنتهي القصيدة أو القيامة بمشهد التلاشي وسيادة الظلام والسقوط في العدم، واستدعاء الأسطورة التوراتية حول برج بابل واختلاط اللغات وتبلبل الألسنة، فالنهاية الكارثية استدعت لحظتين متداخلتين لحظة انهيار برج بابل رمز الخطيئة والرغبة في محاربة السماء، ومشهد نيويورك القيامي لحظة انهيار البرجين، ليخلص الناقد في الختام الى أن «رصيف القيامة» هو رصد عميق والتقاط دقيق لزوابع الشاعر وتوابع الدمار الذي لحق الحجر والبشر.. هو سيرة الألم ووطأة السأم ..هو فلق الروح المهشمة كجرار اللغة من أعلى قمة برج بابل›.