ديوان «كَأَيِّ غَاوٍ» لمصطفى قلوشي «هَشاشةُ الشاعر ومِعوَلُ القصيدة»

 

1) الديباجة كمدخل للديوان:

ثمة شعراء تحس و أنت تقرؤهم، أو تقرأ لهم، أنهم يخطفونك من لحظتك، لِيُنزِلُوكَ مراتب وفضاءات أبهى وأفضل. ضمن هؤلاء، أذكر الشاعر مصطفى قلوشي (1) الذي لا يهدأ من رسم متون شعرية مسكونة بعوالم الذات، يصهرها في قالب حارق، تعتريه الهشاشة بكل تجلياتها.
عند اطلاعي على آخر أعماله الشعرية: «كأي غاو» (2) المشتمل على 16 نصا، و ديباجة صارخة، تؤكد صدق الشعور ونبله، وعلى رابط المحبة الغامرة بين الشاعر و قصيدته؛ يقول: (شكرا للقصيدة … أهدتني قبرا يليق بموتي، و دلتني من أكون) (3)
هكذا يعلن مصطفى قلوشي عن نفسه، رافعا شارة الصد في وجه ما يمكنه أن يعكر صفو العلاقة هاته، أو ينزع عنها ثوب الاخلاص. فأن تشكر القصيدة (التي أنت والدها و مولدها) على إهدائك قبرا لائقا بموتك/غيابك/حضورك، إنما هو اعتراف صريح و تعبير عن امتنان لمساحة الامتداد التي ما كان لك أن تبلغها لولا هذا الجسر. بالنهاية، ما كنت لتكون شاعرا، لولا سخاء القصيدة و كرمها بمنحها نفسها إياك. هو عطاء ما بعده آخر.
و لعل صدى هذا التعالق، يتفجر في سيمولاكر (4) الغواية (انظر عنوان الديوان) إذ كيف به/ها؛ لغويا كصنيع دال على ضَلال الخطو و الخبط العشوائي، ينحو اتجاه الاستقامة، ليصير صدرا مفتوحا قابلا لفعل مفرد منفرد (و هو من المعاني المتعددة لمصدر الغَواية)، فتُحاكي بذلك مدلولا آخر غير الذي وُضعت له؛ كما لو أن الشاعر نأى بنفسه صوب أُوكْسيمُور/طِباق معنوي، تَقَصَّدَهُ عن وعي و إرادة.

2) أُونْطِيَّةُ الشاعر وتَوظيفُ الرمز:

تقوم عوالم مصطفى قلوشي في هذه الأضمومة الشعرية على نسج المُكابدات و الندوب الجوانية، مفرغة لمجمل عناصر الاحساس بالغربة والاغتراب، و نذر الذات للآلام واعتناق الهشاشة، في عزلة داخلية، قوامها الحنين و تفجير العذابات، وقَول الخيبات والاحباط. ولنا في النماذج التالية بيان بذلك. يقول الشاعر:
-»كأي غاو،
أقيس المسافات
بسقطة،
أو صرخة
أو دمعة.» (5)
-»لا ند لشاعر
وحده يرتب الفراغ
في دولاب الوقت.
(…)
لا ملاذ لشاعر
إلا عزلته..
وقصيدة تخونه دوما،
ضدا في الاستعارات
ضدا في المعنى.» (6)
-»العزلة:
أن تحنط الوقت في قصيدة
أن تعانق ذاتك التي تألفها..
و تموت حرا كما فراشة الضوء.»(7)
-»إحباط:
أحيانا أكون محبطا..
تماما مثل شجرة
هاجرتها الطيور.» (8)
إن الاغتراب النفسي، كإحساس و كرؤية واعية للعالم، إنما هو انعكاس لمجمل التوترات الطارئة بالمجتمع، والتي تفاعل معها الشاعر بجوارحه، وأعاد فهمها وصوغها كما يراها. وقد عبر عن الفكرة ذاتها الباحث السوري عصام شرتح، يقول: « الشاعر إنسان يتميز عن غيره بحساسية شديدة (…) ذاته ترتد إلى دائرة وجودها محملة بشتى أشكال الأسى والجراح والضياع (…) تنعكس على الجسد اللغوي للنص الشعري.» (9)
ما كان لأونطية الشاعر مصطفى قلوشي أن تَتَبَأَّرَ في غالبية النصوص، لولا تبنيها لقوة بعض الرموز، في أبعادها وحمولاتها المتعددة، إذ أن الوجاعة الشعورية، و قساوة إحساس الاغتراب، كما سلف، لن تكونا صادقتين بغير ما يبرر حضورهما. وهكذا سعى شاعرنا إلى توظيف رمزين بكل أثقالهما: الحلاج ونيتشه (10)
يقول الشاعر:
«الموت كل ما
في الجبة
يا حلاج.
(…)
وحده النور
يعمي الأبصار،
وفي الظلمة كل اليقين
يا حلاج.»(11)
ثم يقول:
«عود الثقاب مثال جيد للدفاع
عن فكرة،
يدفع رأسه ثمنا لوهج
عابر.
(…)
كل الأوقات مناسبة
لوقوع شيء ما مفرح
وسعيد…
فلا تتحجج بالظروف
أيها القدر.»(12)
عندما يستعين شاعر برمز تاريخي أو ديني أو أسطوري، فإنما لقصد مقاربته بواقع ما، ولأجل كشف سلبيات مزعجة. في هذا السياق، يقول دائما الباحث عصام شرتح: « الرموز الشعرية لا تكتسب قيمتها إلا من خلال ارتباطها بالسياق وبالفيوضات الشعورية والشحنات الدلالية المضافة، التي تكتسبها من سياق النص الجديد.» (13)
يبدو أن مقصد مصطفى قلوشي من تبنيه رؤية نيتشه للعالم، من حيث الافتضاض والاحتراق كقوتين دافعتين محفزتين في اتجاه إبراز تأثير الإنسان على ما حوله، كمانح للجمال وكصانع له، هو إدراكه قوة الفعل البشري على المحيط، عبر «مطارق» التفكيك وامتلاك أدوات الحفر لأجل الفهم العميق استكناه السائد (( فلا سلطة للقدر على اصطناع الفرح إن كان غير مرحب به في قاموس الشاعر، ذاك الإنسان/الكائن البسيط، الواضح للغاية، المُصغي لعويل الريح خلف النوافذ المغلقة، حيث المدينة تكتب سيرتها من جديد، وحيث عود الثقاب المحترق، شبيه بشاعر يدفع رأسه ثمنا لوهج عابر.)) (14)
فما قام به الشاعر هو «محاورة» الرمزين المذكورين المستعان بهما، وقد وظفهما حسب ما تقتضيه الدفقة الشعورية الشعرية. ولعل هذا ما عبر عنه الشاعر اللبناني الكبير «شوقي بزيع»، يقول:» الرمز الديني أو التاريخي يمكن أن يشكل لي تحديا و استفزازا من أجل محاورته(…) لكنني لا أعيد هذا الرمز كما كان في التاريخ، و إلا لا قيمة له.»(15)
فاعتماد مصطفى قلوشي على رمز «الحلاج» لم يكن بدافع بيان منظوره الصوفي للحياة، أو التبشير بقوته في «المجاهدة»، وإنما بغرض الاستدلال على عناصر حياتية قريبة. (( فظلمة واقعنا يقين، وسؤالنا الحقيق بنا طرحه للفهم ليس كيف، و لكن لماذا؟ فربما لا شبيه لنا و لحالنا ما دمنا نُقيم الحُجُبَ ولا نكسرها، ثم نصنع الصنم/الوهم ونعجز عن مجاراته !!» (16)
3) استخلاص:

إن الانسيابية الشعورية البديعة التي عبر بواسطتها مصطفى قلوشي في ديوانه، قادرة على منح حيوات أخرى لهذا العمل الرصين، كما أنها تستطيع أن تدفع بمُتلقيه إلى إعادة قراءته مرات و مرات، بغاية استخلاص شهب قبسية ساطعة مغايرة.

الاحالات:

1)مصطفى قلوشي، شاعر و هايكيست، أستاذ اللغة العربية، عضو اتحاد كتاب المغرب. صدر له: غارات الجنون (1999) زنابق سوداء (2011) سماء جاحدة (2016) بقليل من الحظ ( 2019) فراشات تسكن صدري /هايكو (2021) كأي غاوٍ (2022) .
2)ديوان «كأي غاو» أضمومة شعرية صدرت عام 2022 عن جمعية عبور للثقافة و النشر، بمطبعة وراقة بلال.
3)ص 5 من الديوان الشعري
4)السيمولاكر= المحاكاة
5)قصيدة كأي غاو، ص 10
6)قصيدة شاعر يرمم ملامح وجهه، ص 40
7)قصيدة هذا صدري و تلك آخر الطلقات، ص 72
8)نفس القصيدة السابقة، ص 80
9)عصام شرتح، مقالة: الاغتراب النفسي عند شعراء الحداثة المعاصرين، مجلة: ثقافات، الأردنية الالكترونية، بتاريخ: 19 أبريل 2016
10)قصيدتا: (الموت كل ما في الجبة) ص 14؛ و (غليون نيتشه) ص 34 من الديوان
11)قصيدة الموت كل ما في الجبة، ص 15
12)قصيدة غليون نيتشه، ص 35-37
13)عصام شرتح، مقالة: شعرية الاغتراب بالرموز عند شعراء الحداثة المعاصرين، مجلة: رسائل الشعر الالكترونية.
14)تمديد لبعض المعاني الواردة في السطور الشعرية لقصيدة غليون نيتشه. ص 34-37 من الديوان الشعري.
15)حوار لعصام شرتح مع الشاعر اللبناني شوقي بزيع، ورد ضمن كتاب:» ملفات حوارية في الحداثة الشعرية» ص 448؛ ط 1 سنة 2012.
16)تمديد لبعض المعاني الواردة في السطور الشعرية لقصيدة: الموت كل ما في الجبة..ص.14-18 من الديوان الشعري


الكاتب : جواد المومني

  

بتاريخ : 03/02/2023