ذاكرة : دادة فاطنة أحمد … تمارين الأنوثة والرجولة

 

« دادة « أو «دادا « لفظة في اللهجة المغربية، هي من تعابير اللطف ولاتزال متداولة وقيد الاستعمال حتى وقتنا الحاضر، وتعني الأحبة من النساء كما تعني مجازا التودد والتدليل والدلال، وفاطنة أحمد هي أمنا المشتركة، المتفردة والاستثنائية بين النساء والرجال، « دادة «، هكذا كنا نناديها في الدار الكبيرة، وبنعومة موغلة في التحبيب .
«دادة « كانت كبرى خالات أبي، ولأن جده لم ينجب سوى تاء التأنيث، اختارت أن تكون ظلا لأسطورة «الخنثى»، وكائنا أندروجينيا ، كما في الأساطير اليونانية، رجل وامرأة ذو جنسين بأربعة أرجل وأربعة أذرع، نصفها رجل، ونصفها امرأة، أي تركيبة من الذكورة والأنوثة .
تلبس جلبابا رجوليا، تضع عمامة رجولية تخفي ضفائرها الصفراء، تتدلى من كتفها الأيمن « شكارة «، ومن كتفها الأيسر خنجر في غمده، وكما لو كردية من كردستان، ولا تنسى أن تكحل عينيها من قارورتها الحالكة وبمرود من العرعار، ولأنها من طينة مختلفة لم تتزوج، واكتفت بأسرارها الوطنية، وبقططها، وبشجرة التين، وبأطفال الحارة ، وبخنجرها الفضي الذي لا يفارقها حتى في صلواتها .
« دادة « فاطنة، لم تكن تأكل الخبز وتمشي في الأسواق، بل متراسا من المقاومة، ففي الوقت الذي كان الناس ينامون باكرا بعد صلاة العشاء، كانت هي تهرب الأسلحة، لأنها كانت تنتمي إلى خلايا المقاومة ، هي من وضعت القنبلة في سوق أربعاء الفقيه بن صالح الأسبوعي، لإزعاج «طاليك « المعمر الفرنسي وأذنابه بتكليف من خليتها، وكل هذه البطولة « الخنثى «، بقيت تسرها في نفسها، ولم تفكر يوما في بطاقة، أو رخصة حافلة أو طاكسي متنقل، لأن ما فعلته لا يحتاج إلى مقايضةأو تعويض، وتكفيها وطنيتها .
هي ذي « دادة «، اكتفت باستقلالها في «دويرتها « الصغيرة بالدار الكبيرة ، تؤنسها القطط، وظلال شجرة التين المسنة، توزع حباتها على الأطفال، وأحيانا حبات من الليمون على أطفال حارة ابن احمد، لتترك في قلوبهم الصغيرة كل البهجات، ولا شيء سوى الرقص وكلمة «دادة « تتطاير في الهواء، بل كانت تنتفض حين تلتقط عيونها أما تسلخ جلد ابنها ، تحتضنه تمسح عينيه، وتنتزع منه ابتسامة بريال، الريال الذي سيمكنه من مص سبع حباب من الحلوة على وجهها ساعة صغيرة .
وها صوتها يأتيني الآن تلقائيا، ومن بعيد، وهي تحكي عن الحج والكعبة والكوفية، وعن علاقتها بأصدقائها اليهود الذين تعلمت منهم لذة طبق « الحرايمي» التي تحفظ مقاديره عن ظهر قلب : كيلو سمك، فص التوم، زيت الزيتون، طماطم، فلفل أحمر وأخضر، ملعقة كمون، ملعقة ملح صغيرة، وبقدونس وليمون للتزيين، وبعد مضغها وتلمظها الطبق اللذيذ، وبعد تنقيتها لأسناها المصطنعة وغسلها في كوب من الماء، تصنع شايا، وتخرج « المطوي» و»السبسي»، وتنفخ دخان « الكيف « الأخضر، ربما كي تخدر أسرارها لتبقى رابضة بأعماقها وتسرها في نفسها كما يوسف الجميل .
« دادة فاطنة «، كانت صديقة حتى للبلهاء، وسكان « الدار لكبيرة « يتذكرون كل أوقاتها مع بائع الماء الأبله، وزوجته البلهاء ، تصالحهما في العاشرة صباحا، ليعودا إليها متخاصمين في الرابعة بعد الزوال، ولا شيء يجدان عندها سوى خاطر بسعة أحلام الأطفال، حتى قلة الماء التي تسقط من الأبله في غالب الأحيان ، كانت تعوضها له دون أن تقطب حاجبيها، أو تبدو على ملامحها نمشة قلق .
ولأنها موغلة في إنسانيتها كانت تعد طبقا من «الرفيسة»، وتمشي به في اتجاه امرأة بلغ إليها أنها نفساء، تبارك لها ، وتعود إلى « دويرتها « وفي طبقها الملحوس قطعة سكر من أهل النفساء، نعم، تعود إلى « الدويرة « التي لفظت فيها أنفاسها الأخيرة وبعد مرض عضال لم ينفع معه علاج الفقهاء والأطباء ولا الأعشاب .
لا شيء كان يغضب « دادة « سوى أن يتفرنس الشباب، وكم مرة استوقفت شابا يسدل شعره كالضفيرة على كتفيه، وكانت حينها حمى الهيبيزم ، لتلقنه درسا في الأصالة والهوية المغربية، ولا تعنيها ردود أفعاله، ولا حتى أن يعيرها بالفضول و» الدخول في الصحة « .
ومملوءة بحبها لله ، حجت أربع مرات، وكانت تحمل أحلامنا وأمنيتنا في رسائل نكتبها كي تحملها معها إلى المدينة المنورة، تدسها في « شكارتها « الكبيرة ، وتغادر على إيقاع الزغاريد والطعاريج والدفوف، ونظل نحن في انتظار طاقية، أو مسدس يضيء بالألوان، كي نقتل نحن الأطفال بعضنا ونمثل الموت .
أنظر إلى صورة « دادة» وأنا أستحضر كل هذه الذكريات التي أحس معها أني أنتمي إليها، ومنها أطل على ذاكرة تستعصي على المحو، إذ ما من وسيلة لابتعاد هذا الماضي القريب والبعيد، ومهما أسرفت في الحديث عن طزاجته، تبقى الكثير من المسارب خفية، ويتعذر القبض عليها، لكن خير الكلام ما استغني فيه عن الكلام، كما يقول المثل، وتغمد الله «دادة» فاطنة أحمد بواسع رحمته .


الكاتب : عبدالله المتقي

  

بتاريخ : 19/01/2022