رؤية الـنـص الأدبي للعالم

يستعمل بعضُ النقاد مصطلحَ (رؤية الكاتب للعالم) وبذلك، ضِمْــنِــيًّا، يَــنْــفــون عن الكاتب (مَــوْتَــهُ)!..لكننا نحن، سنحاول أنْ نقترضَ منهم هذا المصطلحَ لنطبقه على (علاقة النص بالعالم والتاريخ) متجاهلين الكاتبَ، أحيا أم ميتا، كيلا يأتي ناقدٌ، غــدًا، والناقد بمثابة شرطي (هذه مُزْحةٌ فقط) فيتهــمنا بـ(إماتةِ الكاتبِ)!..فكيف يرى النصُّ العالمَ، أو كيف
يتــمثَّــــلُهُ؟!..وما دور التاريخ في النص؟!..ربما سنعود إلى الماضي، إذا سمحتم، لندرك هذه المشكلةَ القائمةَ بين النص والعالم، فنعتمد الشعرَ والقصةَ، مؤقــتًا، لأنَّ الأجناسَ الأدبيةَ الأخرى، لم ينضجْ نُــمُــوُّها كاملا إلا مــؤخَّــرا . ولنبدأْ بالشعر : فأفلاطون يُنَحِّي الشعراءَ عن خياله، لأنهم، في رأيه، يحرِّفون العالم!..وما قاله عن الشعر، يمكننا تطبيقُهُ تساويًّا على الأدب برُمَّــتِــهِ. وما دمنا نخوض في الشعر، فإنَّ القائدَ والكاتبَ (زيادٌ بْنُ أَبيهِ) يعتبر «الشعرَ كذبا وهزلا، وأحقه بالتفضيل أكذبه» لأنه يختلق الأشياءَ من الخيال، أي يبني العالمَ بالكذب (الفني طبعا)!.. إلا أنَّ الناقــدَ (قُدامَةَ بْنَ جَعْفَرٍ) يعرض تصورا آخرَ، فيمسِك العصا من الوسط، أو يُحاول أنْ يتبنَّى مَنْهَجَ (الوسطيةِ) ونحن (أمة وسطٍ في كلِّ شيءٍ) بما يعني : إنْ كان الشعرُ كذبا، فعلينا أنْ نميز بين الصدق والكذب، لأنَّهما مُكَوِّنان أساسيان في رؤيةِ العالم، وهو يقصد بالكذب (الخيالَ الفني) !
ويتماشى أفلاطون مع هذا التـمـيــيز، فيرى أنَّ هناك تباينا بين العالم وصياغة النص، الذي (يحاكي ويقلد) العالمَ بــ(الاستعارات) لا بالخيال الجامح . وينسى أنَّ النَّصَّ الأدبي يُعيد تشييدَ الواقع بالبناء التخيلي للعالم، وإلا ما حاجتنا إلى الأدب إذاكان يقتصر على نَـسْـخِ الواقع الموضوعي الذي نعيشه؟!…ثم يـأتينا السيد «هاملت» في مسرحية شكسبير، ليؤكد أنَّ علاقة النص بالعالم، كَمَنْ «يَضَع مرآةً أمام الطبيعة» أي ينقلُ حرفيًّا ما يراهُ، وما يسمعُهُ، وما يعيشُهُ، كأنَّ كلَّ ذلك لا يَــمُــرُّ عبر ذاتِهِ، فيُحْدِث فيه تــغــيــيرا، ولو يَسيـرا !
والخلاصةُ، كي نغادرَ هذه المتاهةَ، أنَّ أكبرَ ما يربط النصَّ بالعالم، هو ما يعكسه بتــقــنيةٍ سرديةٍ ورؤيةٍ فــنــيةٍ دقــيقــتــين، من قضايا متنوعةٍ في أجناسٍ أدبيةٍ، كالشعر والقصة والرواية والمسرحية…فإذا أردنا أنْ نسبُر أغوارَ العالم، بجغرافيته وتاريخه وبشريته، وتمثلاته الفكرية والثقافية والفنية، علينا أنْ نلجأَ إلى النص الأدبي (خصوصا) وإنْ كان العالم، في حقيقته، لا يتشكل من خلال الأدب فـقـط، إنما من فلسفة وتاريخ وعلوم، وما إلى ذلك…!
ويُمْكِــنُــنا أنْ نــتجاوزَ الشعـرَ إلى القصةِ بـ(مفهومها الشامل) فعلاقتُها متينةٌ بالعالم…إنها توجد في كل مكان : في الحرب والسلام، وفي الحب والغرام…ونحن، كذلك، نوجد في القصة ذواتا وأحاسيسَ وأمزجةً . فالتاريخ يسرد، مثلا، قصةَ (حرب الملوك الثلاثة بوادي المخازن) وعلم الفلك يسرد قصةَ (بدايةِ الكون) والجيولوجيا تسرد قصةَ (الأرض، وما تحمله من جبال وسهول وأنهار)…و(السرد) في الأدب والتاريخ والعلوم، هو بنيةُ القصة، وبدونه لن نحصل على قصٍّ حقيقي، لأنه سلسلةٌ من الأحداث والوقائع في نظامٍ يحدد خريطةَ العالم الحقيقيةَ . وهذا السرد كالهواء، يوجد بلا استــثــناءٍ في كل الأجناس الأدبية والعلمية والدينية، وإن اختلفتْ وتلوَّنتْ طريقتُهُ !
إنَّ النصَّ الأدبي (الإبداعي) عالمٌ فسيحٌ، غيرُ محدودٍ، يمـتـــد عبر التاريخ، ولا ينتمي إلى زمــنٍ مُعَــيَّــنٍ، لأنه من الناحيةِ الجماليةِ، له قوانينُهُ المتعلقةُ به، وليس كقطعٍ أثريةٍ تنتمي إلى عصرٍ ما. ربما لا يُسايرُ هذا الرأيَ (النصُّ الواقعي) الذي يمثِّل المؤثراتِ الصوتـــيـــةَ والمرئـــيـةَ، فـــيـــوفِّـــر لنا حِـــقَـــبا وأحداثًا تاريخيةً معـــينةً، بشخصياتها وأمكنتها وأزمنتها…!
هــناك من يــنكــر أنْ يــكــون في هــــذا الـعــالــم نــصٌّ أدبـي غــيــر مؤطَّر في حقبةٍ تاريخيةٍ ما، ولو كان (إبداعيا) لا تظهر فيه أيَّةُ مؤشراتٍ تُحيلنا على خلفيته . وفي نظر هذه الفئةِ من النقاد والباحثين، أنه لا يوجد نص أدبي، نشأ من فراغ، أي لم يتأثر بزمانه ومكانه، فهو «ابن بيئته» لأنه إفراز إنساني.. ويستشهدون على ذلك، بأنَّ القارئ إذا أراد أنْ يغوصَ فَهْما واستيعابا في النصِّ، لا بُــدَّ له أنْ يعود إلى الحقبةِ التاريخيةِ التي أنجبتْهُ، بل إلى كاتـبِهِ، فينبش في حياتِهِ، وفي مكوناتِهِ الثقافيةِ والوطنيةِ والاجتماعية والسياسية والدينية، ما استطاع إلى ذلك سبيلا !
ويذهـب هــؤلاء بعــيــدًا، فــيــرون أنَّ التاريخَ يشكِّــل الطريقةَ التي ننظر بها إلى النص الأدبي، وهذا الأخير، هو أيضا، يشكل الطريقةَ التي ننظر بــها إلــى الــتــاريــخ، في عــلاقــة جدلــيــةٍ بــيــنهــما، أو لنقلْ إنَّ كُلا منهما يُكَمِّل، أو يفسِّر، أو يُصَحِّح الآخرَ، أو يُميطُ اللثامَ عن الوقائع التي شهدها العالمُ في حقبةٍ معينةٍ . وكمثال، إذا كان (التاريخُ يكتبُهُ المنتصرون) فإنَّ حقيقةَ الحربِ لا نراها كاملةً، إلا في القصة أو الرواية أو المسرحية . فرواية «الحرب والسلام» للكاتب ليو تولستوي، تجسِّد تأثيرَ غزو نابليون بونابرت على المجتمع الروسي. و»فرانكشتاين في بغداد» لأحمد السعداوي، تسرد أحداثا واقعيةً، خلَّفَها الغزو الأمريكي البغيض للعراق ، و»سبعةُ أبوابٍ» لعبد الكريم غلاب، ترصد تجربةَ الكاتب الطويلةَ والقاسيةَ في السجن، لانتمائه إلى الحركةِ الوطنيةِ ضد الاستعمار الفرنسي!.. إلى غير ذلك من الأمثلةِ، التي تدل على العلاقة بين النص الأدبي والتاريخ، ونظرته إلى العالم . لنخلصْ من كل ذلك، إلى أنَّ النَّصَّ الأدبي يتأثَّر بالسِّياقِ السياسي، أو بالحقبة الزمنية التي فتح عليها عينيه..!
إنَّ الأدب، بكل أجناسه، يمنحنا رؤية ً شاملةً وكاملةً للتجربة البشرية، عبر تاريخِها الطويــل، منذ بدايةِ الحياة في هــذا العـالـم، مـما يُــتــيح لنا الــتــواصلَ على كــافــةِ المستوياتِ الفكرية والسلوكية والوجدانية…!
الأدب يثير الفكر، فيساعدنا على التساؤل والتشكيك في الأفكار والآراء الرائجة في كل أنحاء العالم، وفَهْم أعمق للقضايا والمواقف الاجتماعية والإنسانية، ولطبيعة العالم بشكل أكبرَ . كما يساعدنا على رؤية الطبيعة البشرية عبر التراجيديا والرومانسية والفرح والحزن، وفي التجلي والإنكار، وفي لحظة الانتصار والانكسار، إلى غير ذلك من الثنائياتِ الضديَّةِ…!
وكمثال على ذلك، كان دور القصص خارجا عن الكتب، إذ يُــقِــرُّ أفلاطون أن الآداب والفنون لا تحقق لنا المتعةَ فقط، إنما تفيد الحياةَ البشرية، وتُوجِّهُ كتابةَ بنود الدساتير في العالم . ومثله (أرسطو) الذي أقـــرَّ بأنَّ الأدبَ، والشعرَ خاصة، يُلْهِم البشرَ بأنْ يسلكوا طريقا أفضلَ في عيشهم . ويكفي الأدبَ فخرا، أنَّه لولا ملحمة «الكوميديا الإلهية» لدانتي، التي ألَّــفَها بلهجة (توسكانا) لما تحولتْ إلى لغةٍ رسميةٍ، يطلق عليها (الإيطالية) تقديرا لدور الأدب في تطوير اللغة !


الكاتب : العربي بن جلون

  

بتاريخ : 12/05/2021