رحيل رجل دولة بمسارات متعددة

برحيل الأستاذ محمد الشرقاوي، يكون المغرب قد ودع جيلا تقريبا بكامله من قادة وطنيين، كان لهما حضورا متميزا، على ساحة الفعل السياسي المغربي.
الأستاذ محمد الشرقاوي لم يكن فقط مناضلا، التحق منذ شبابه بصفوف الحركة الوطنية، بل كان كذلك مثقفا حقيقيا، يتميز بعمق فكري، ساعده في ذلك بالإضافة الى تمكنه من اللغة العربية، إتقانه اللغة الفرنسية اتقانا كاملا كان يفاجئ به آنذاك أكبر الصحفيين الفرنسيين في باريس.
مسار هذا الرجل يستحق منا التوقف لقراءته بشكل مستضيف حتى تستطيع الأجيال الحالية التعرف على مراحل أساسية من تاريخ المغرب لا سيما على المستوى السياسي، فالأستاذ السي محمد الشرقاوي كباقي جيله تلقى تكوينا فقهيا ومعرفيا مرتبط ارتباطا وثيقا بمنبع التصوف الروحاني الذي كان يحيط بالزاوية الشرقاوية بمدينة أبي الجعد، هذه الحضيرة التاريخية أنجبت علماء وفقهاء ورجال سياسة وعلم، تجدهم في مرافق كبرى ومسؤوليات عديدة يتميزون دائما بحسن الخلق والتواضع، هكذا بعد اكتمال فقيدنا تكوينه الإبتدائي والإعدادي، التحق بثانوية مولاي يوسف بالرباط.
عايش مجموعة من الأسماء التي كانت متشبثة بحب الوطن والإخلاص لمؤسساته لا سيما في فترة، كان المستعمر يحس بنوع من التوجس تجاه العلاقة التي بدأت تتقوى بين الملك محمد الخامس وابنه الحسن الثاني مع ما سيعرف من بعد بجيل الوطنيين الصادقين الذي وإن فرقت بينهم الانتماءات والاختيارات كان يجمعهم في تلك الفترة حب الوطن والارتباط بالعرش، بعد حصوله على الباكالوريا سيرحل محمد الشرقاوي إلى فرنسا، هنا تقوت علاقاته بمجمو عة من الأسماء المغربية والفرنسية، وساهم في نقاشات سنوات الأربعينات ارتبط بأوساط اعلامية فرنسية لم تكن منخرطة في المشروع الاستعماري، كان مؤمنا بأن مواجهة الاحتلال الفرنسي تتم بواسطة المقاومة لكن هذه الاخيرة قد تبقى محدودة اذا لم تكن مصحوبة بعمليات التحسيس والشرح والتفسير في أوساط الفاعلين السياسيين والنقابين والمثقفين والكتاب الفرنسيين، من هنانسج المرحوم الشرقاوي علاقات مع صناع الرأي خاصة في أوساط الصحفيين الكبار في فرنسا، لدرجة أن مخابرات الباريسية التي كانت تتابع الوطنيين المغاربة في الأراضي الفرنسية كانت منزعجة من حضوره السلمي والاشعاعي، تمنت لو كان مندفعا يستعمل أسلوبا آخر أكثر تطرفا يكون فرصة للتخلص منه، كتب مقالات عديدة بفرنسية راقية وفي بعض الأحيان بأسماء مستعارة أو موقعه من زملائه الفرنسيين خوفا من بطش البوليس الفرنسي، لم تنحصر شبكات علاقاته القوية مع الطبقات السياسية والإعلامية بل استطاع اختراق المجال النقابي لا سيما الكونفدرالية العامة للشغل القوة الضاربة التي كانت صوتها ممتدا في فرنسا وكل مستعمراتها ومنها المغرب.
عندما قرر الانخراط في العمل السياسي، اختار مشروعا مغايرا لجزء كبير من جيله، التحق بحزب الشورى والاستقلال مدافعا عن الديمقراطية التي كان يرى فيها الجواب الوحيد القادر على تحصين المغرب بعد الاستقلال، بسرعة فرض وجوده نظرا لتكوينه الفكري ومعرفته السياسية وحسن قراءته لأوضاع الدولية، انتخب في المجلس الوطني وفي المؤتمر الثاني، أصبح قياديا في المكتب السياسي برئاسة الحسن الوزاني وبجانب أسماء سيكون لها وزن في مغرب ما بعد الاستقلال، أمثال عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة،و آخرون، شارك في مفاوضات ايكس ليبان حيث كان ضمن الوفد الذي ضم أسماء عديدة أمثال الشهيد المهدي بنبركة وعبد الرحيم بوعبيد ومحمد بوستة
مرحلة ما بعد الاستقلال لم تكن سهلة على السي محمد الشرقاوي، عرفت نقاشات حادة صعبة ومعقدة، ظهرت فيها خلافات جوهرية بين جيلا كان موحدا في مواجهة المستعمروعودة السلطان من المنفى، لكنه اختلف في المشروع المجتمعي لما بعد الاستقلال، كعادته دائما، اختار فقيدنا النقاش الهادئ مع رفاق الأمس مبتعدا عن التصنيف الجارح. كان رحمه لله وظل وفيا لانتمائه الصوفي، يحسن اختيار الكلمات الطيبة متواضعا مع كل من يناقشه ويجالسه، أسلوبه المفضل هو حسن الانصات واحترام الآخر. كيفما كان موقعه السياسي والاجتماعي لم يكن مترفعا رجل جلوس ينتقل بسهولة بين الثقافة الغربية والمشرقية، قوته هو أنه عاش في باريس وطنيا مدافعا عن بلده.
وفي القاهرة قوميا عروبيا مرتبط بالقائد عبد الكريم الخطابي كان يزوره بشكل منتظم ومدعما لجمال عبد الناصر رمز مواجهة الاستعمار آنذاك لم يتخلى السي محمد الشرقاوي عن قناعته الديمقراطية التي كانت مبنية على ثابت لا يتغير عن فقيدنا ألا وهو الأسبقية لخدمة الوطن، من هذا المنطلق كان حريصا عندما تحمل مسؤوليته بسفارة المغرب بباريس، أن يقول الحقيقة لصناع القرار في الجمهورية الفرنسية دون مجاملة، لكن بلباقة عالية، كان على اتصال دائم بالجنرال دوغول وبالمقربين منه، هذا الأخير كان يعيش فترة انتقالية صعبة بفرنسا حيث كان الصراع محتدما بين الفرقاء السياسيين.
اقتنع السي محمد الشرقاوي بأن خدمة المغرب ومصالحه يقتضي التواجد ضمن هذه النخبة بكافة أطيافها، هكذا عاش نقاش ما قبل الجمهورية الخامسة أي فترة النقاش حول دستور 1958 بل يكاد البعض من رفاقه يجزم أن مساهمته الغير مباشرة كانت واضحة نظرا للعلاقة القوية بقصر الاليزي دليلنا في ذلك الرسالة التي ودع بها الجنرال دوغول سي محمد الشرقاوي وحرمه الأميرة لالة مليكة أثناء مغادرتهما لباريس بعد إنهاء مهمته كسفير.
كما كانت تجمعه صداقة بالكاتب الفرنسي ووزير الثقافة الأسبق، أندري مارلو وكذلك بالوزير الأول آنذاك ميشيل دوبري أول وزير أول في الجمعورية الخامسة، كان منزله بباريس بمثابة مجلس نقاش فرنسي فرنسي تحت خيمة مغربية.
عاد الى المغرب وتحمل مسؤوليات وزارية عديدة منها وزارة المالية والخارجية في مرحلة صعبة وحرجة ودقيقة نعني هنا حرب الرمال لسنة 1963 مع الجزائر. قاد الوفد المغربي للمفاوضات مع الجارة الشرقية بوساطة افريقية دافع على مشروعية الموقف المغربي تسع جولات، كان يقود الوفد الجزائري انذاك عبد العزيز بوتفليقة، تقلد مناصب أخرى مثل الدفاع الوطني والتصميم، كانت للمرحوم برفقة بعض زملائه رؤية مختلفة لتدبير العلاقة مع الجزائر.
لم يكن متحمسا لاتفاقية إفران برغم من تفهمه لسياقها في مرحلة صعبة ومعقدة من تاريخ المغرب بعد انقلابين عسكريين، وبالرغم من انه اختلف مع رفاقه الشوريين الذين التحقوا في ما بعد بحزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية امثال المرحومين عبد الهادي بوطالب وأحمد بنسودة، الا انه ظل في علاقة احترام وتقدير متبادل مع المهدي بنبركة، دائم النقاش والتواصل مع عبد الرحيم بوعبيد في كل مناسبة يلتقيان فيها، كان يسأل بشكل منتظم عن زميله في الدراسة يوما كان في المنفى الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي، جمعته، مع الفقيه البصري علاقة أخوة احتضنه بعد رجوع هذا الأخير الى المغرب بطريقة فاجئت الكثير ممن لا يعرفون الإحترام المتبادل بين الطرفين والذي ترجع أسبابه إلى انتمائهم الى نفس المنطقة الممتدة من أبي الجعد إلى إقليم أزيلال، كذلك كان ارتباطه بالحقل الاجتماعي قويا من خلال علاقته مع القادة النقابيين بالاتحاد المغربي للشغل وعلى رأسهم المحجوب بن الصديق والسي محمد بن عبد الرزاق.
ورغم ابتعاده عن الحقل السياس فقد ظل متابعا لاوضاع وطنه في ارتباط وثيق مع التحولات الكونية، مايهمنا في هذه الاشارة هو مبادرته الوطنية الصادقة التي تبقى معرفتها محصورة عند قليل من الناس فبعدما بدأ المرض يشتد على الراحل الملك الحسن الثاني، شرع فقيدنا في الاتصال ببعض أصدقائه لاسيما في أوساط المعارضة خاصة الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحزب الاستقلال، كان كلامه واضحا مرتبط عادته بالمصالح العليا للوطن، طالب المعارضة آنذاك بالتشبت بالتعبئة الجماهيرية لكن بالموازاة يجب كذلك الاستعداد لخدمة البلد لا سيما في المراحل الانتقالية الحساسة، من هنا يمكن القول ان السي محمد الشرقاوي ساهم من خلال مجموعة من الجلسات مع بعض رموز المعارضة لإزالة جزء من الحواجز تاريخية أو النفسية لتمهيد الظروف لتناوب توافقي، ويتذكر الجميع كيف تحول منزله في الرباط الى فضاء اتسع للجميع بعض النظر عن انتمائهم الفكرية أو السياسية، كان رحمه لله يردد باستمرار أن جنازة الملك الحسن الثاني هي بمثابة جواب شعبي تلقائي من خلاله على تلاحمهم ووحدتهم، وان الانتقال السلس للسلطة في المغرب، من ملك لملك هو عربون عن نضج الشعب المغربي وعلى تجذر مؤسساته في التاريخ وان هذا الشعب قادر دائما على مواجهة كل الصعاب.
في كل المراحل والمسارات كانت رفيقه دربه الأميرة المرحومة لالة مليكة بنت السلطان محمد الخامس وأخت الحسن الثاني وعمة الملك محمد السادس، دعما وسندا قويا لفقيدنا، عرفا الاثنين بتواضع لا مثيل له يكفي لمن يعرفان الفقيدين الاستشهاد بحياتهما المتواضعة والزاهدة بمقابل ذلك تعيش معهما مجالس شبيهة بمؤسسات التفكير الخاصة بتبادل وجهات النظر بعمق وتمكن.
رحم لله الفقيدين السي محمد الشرقاوي وقبله الأميرة لالة مليكة وعزاؤنا للأبنائهما مولاي عمر مولاي سليمان ومولاي المهدي ولالة ربيعة أبناء أصر الفقيدين على ولوج مدارس حكومية كباقي أبناء الشعب مما جعل تربيتهم وثقافتهم تعكس خصال وقيم كل المغاربة.


الكاتب :  عبد الكريم إبنو عتيق

  

بتاريخ : 04/01/2023