رسالتان واثنتا عشرة قصيدة بين سركون بولص ووديع سعادة!

هل تكفي رسالتان اثنتان، واثنتا عشرة قصيدة، وكلمة رثاء واحدة، ونبذة مختصرة، وثلاث صور فوتوغرافية، لتشكّل كتاباً جديراً بالقراءة؟
هذا السؤال يطرحه كتاب «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» الذي أعدّه وقدّم له الكاتب والناشر اللبناني سليمان بختي، وأصدرته دار نلسن للنشر.
أمّا الجواب فتتوخّاه هذه القراءة، مع الإشارة إلى أنّ كتابيّة الكتاب، أيّ كتاب، لم تكن يوماً مسألة كمّية بل هي مسألة نوعية بامتياز. على أنّ مادّة الكتاب المفصّلة أعلاه كان الشاعر اللبناني وديع سعادة قد زوّد بها الناشر الذي قدّم لها وأعدّها للنشر، وهي عبارة عن رسالتين أرسلهما الشاعر العراقي الراحل سركون بولص من مهجره الأميركي إلى صديقه سعادة في لبنان، وقصيدة كتبها في بيت الأخير في شبطين، من جهة، وعبارة عن إحدى عشرة قصيدة، متوسّطة وقصيرة، كتبها سعادة وأهدى اثنتين منها إلى صديقه بولص، وكلمة رثاه بها، ونبذة مختصرة عنهما، من جهة ثانية. وهذه المادّة، على تنوّعها، تصل ما بين ضفّتين، وتضيء علاقة صداقة بين الشاعرين، استمرّت حوالي أربعة عقود، وتحفل بنقاط تقاطع كثيرة بينهما، وتتمخّض عن هموم الأوّل ومحاور اهتمامه، في لحظة الكتابة، على الأقل، من جهة، وعن شعرية الثاني ومشاعره، من جهة ثانية.

نقاط تقاطع

نقاط التقاطع بين الشاعرين هي: التحدّر من نشأة ريفية، كتابة قصيدة النثر، العمل الصحافي، والهجرة إلى الخارج.
في المقدّمة، يشير بختي إلى أنّ الشاعرين «جمعتهما القصيدة وبيروت والمنفى والغربة والصداقة» (ص 7). وفي الرسائل والقصائد، نشير إلى أنّهما يتقاطعان في: الانتساب إلى الجيل الثاني من شعراء قصيدة النثر، الخروج على التقاليد الشعرية، البصمة الشعرية، الصدق الفنّي، الاغتراب الوجودي، الرؤية الشعرية، وكتابة الرسائل، وغيرها.
ولعلّ هذا التقاطع في الهموم والاهتمامات هو الذي جعل العلاقة بينهما تمتدّ من عام 1968، حين التقيا في بيروت، للمرّة الأولى، إلى عام 2007، حين التقيا في مهرجان لوديف الفرنسي، للمرة الأخيرة، قبل نحو شهر من رحيل بولص.
وبين اللقاءين، الأوّل والأخير، ثمّة لقاءات متعدّدة في أماكن مختلفة، ورسائل متبادلة، واهتمامات مشتركة. وخلال هذه المدّة الطويلة، تطورت العلاقة بينهما إلى نوع من التفاهم الفكري والشعري والعاطفي، وهو ما نقع عليه في رسالتي بولص في الكتاب اللتين تعكسان همومه واهتماماته، وفي قصائد سعادة التي تعكس شعريته ومشاعره، ممّا نفصّل فيه القول أدناه.

لواعج وهواجس

كتب بولص رسالتيه من سان فرنسيسكو في عام 1971، بفارق شهر واحد وعشرين يوماً بينهما، في إطار عملية تبادل الرسائل بين الشاعرين، والمؤسف أن يقتصر الكتاب على رسالتي بولص فقط دون ردّي سعادة عليهما، لوجودهما بحوزة الأول أو الأصدقاء الذين تولّوا أرشفة أعماله، ما يجعل صورة العلاقة بين الصديقين غير مكتملة.
ومع هذا، إن قراءة الرسالتين من شأنها إلقاء الضوء على المرسِل والمرسَل إليه ودرجة الصداقة بينهما، تلك التي تجعل الكتابة نوعاً من البوح باللواعج، والإفضاء بالهواجس، والمكاشفة بالدخائل، وإفشاء الأسرار الحميمة، من جهة، ونوعاً من الحديث إلى الذات، من جهة ثانية، وسلاحاً في وجه الغربة والاغتراب، من جهة ثالثة.
ولعل هذه الصفات هي ما يفسّر انتقال الكاتب بين الموضوعات المختلفة، ضمن الرسالة الواحدة، بسهولة ويسر، متخطّياً الحواجز الجغرافية والنفسية، ورافعاً الكلفة مع صديقه.

شؤون وشجون

في الرسالة الأولى، المؤرّخة في 27 / 3 / 1971، يصف بولص حالته في المغترب وما يعانيه من قلق ووحدة واغتراب مكاني.
ينصح صديقه بالتمرّد على الأنماط الجاهزة والقوالب الجامدة في الحياة والشعر، يغضب من الأفكار الخاطئة التي تروّجها مراكز القوى المتحكّمة بالمنابر الثقافية، في حينه، عن الغرب الأوروبي، دون أن يوضح ماهية تلك الأفكار. يعبّر عن الحقّ في قذف الحمم من الذات أياً تكن الحرائق المترتّبة على ذلك. يؤمن بحتمية بزوغ النهار من خلال الليل المقيم. يفضي إلى صديقه بمشاريعه الثقافية الجاهزة أو التي هي قيد التجهيز. يبدي رغبته في التواصل مع أصدقاء من الضفّة الأخرى كجان دمو ويوسف الخال وأدونيس.
يختم الرسالة بإفشاء سرّ مغامرة غرامية سيقوم بها مع سيدة أميركية. وهكذا، يجاور بولص بين الذاتي والموضوعي، الشخصي والشعري. وينتقل من موضوع إلى آخر في رسالته، في إطار من تداعي الأفكار، فيغدو النص أقرب إلى الحديث الشفهي إلى جليس منه إلى الرسالة الكتابية.

انطباعات وملاحظات

في الرسالة الثانية المؤرّخة في 16 / 5 / 1971، نقع على انطباعات نقدية، وملاحظات ثقافية مختلفة. يعبّر فيها بولص عن غزارة في الكتابة، في تلك اللحظة، وعن عدم رضاه عمّا يكتب، في نوعٍ من النقد الذاتي الذي يمارسه. ينصح صديقه سعادة بأن يستحقّ قصيدته. ويرى أنّ الحالة الشعرية وحدها الحقيقية في هذا العالم.
من هنا، فإنّ إيمانه بما يكتب هو كلّ شيء بالنسبة إليه. وفي الرسالة نفسها، يأخذ على اللغة الإنكليزية برودتها ولاشعريتها، ويشير إلى تضوّره «في الشوارع بحثاً عن كسرة من اللغة العربية» (ص 35).
ويختم رسالته بالطلب إلى صديقه أن يحمل أصدقاء، من قبيل أدونيس وجان دمو ورياض فاخوري وخليل الخوري، على الكتابة إليه، ولعلّ مثل هذا الطلب ينطوي على اعتراف غير مباشر بأهمّية الكتابة للمغترب ودورها في التخفيف من وطأة الاغتراب. وبذلك، لا يشذّ بولص في الرسالة الثانية عمّا انتهجه في الأولى من تعدّد الموضوعات وكثرة الانشغالات وتنوّع الاهتمامات، يسوقها في إطار من التلقائية والعفوية، ما يعكس درجة الصداقة بين المرسِل والمرسَل إليه.

قصائد ومشاعر

في المقابل، يشتمل الكتاب على إحدى عشرة قصيدة كتبها وديع سعادة، وهو يهدي أولى هذه القصائد إلى سركون بولس منفرداً، وثانيتها مشتركاً مع بسام حجار.
وفي القصيدتين، يُعلي الشاعر قيمة الصداقة؛ فيحاول في الأولى أن يردم الهوّة بين ضفّتي بيروت بالشعر، لعلّه يصل إلى صديقه بولص في الضفّة الأخرى، ويقوم في الثانية باستدعاء صديقيه بولص وحجّار إليه، فيطلب إلى الأوّل أن يُدفِّئه بترابه، ويطلب إلى الثاني أن ينعش ذاك التراب بكأسه.
ويدعو الاثنين إلى نزهة مشتركة في رحاب المكان، لعلّهم يتخفّفون من وطأة الزمان. وهكذا، يترجّح الشاعر بين رغبتين اثنتين؛ رغبة الالتحاق بصديقه التي تحول دونها الحرب، ورغبة دعوة صديقيه إليه التي قد يحقّقها السلام.
أمّا القصائد التسع الأخرى فهي ترجيع لأصداء رفاق شاخوا، وحطب احترق، ورياح تدقّ على الباب، وسابح يوشك على الغرق، وأرض تنتظر المطر، ومسافرين ضجروا، ورغبة متعذّرة التحقّق، وغرق حتميّ في نهاية المطاف.
وبكلمة مختصرة، هي ترجيع لحياة الإنسان في تموضعه بين الممكن والمستحيل، وفي خضوعه للشرط الإنساني المحكوم بحتمية الرحيل.
وبعد، وعودٌ على بدء، يمكن القول إن المادّة المطروحة أعلاه، على قلّتها، تشكّل كتاباً جديراً بالقراءة. فكتابيّة الكتاب، أيّ كتاب، ليست مسألة كمّية بل هي نوعية بامتياز. وبهذ المعنى، تكون «رسائل وقصائد بين سركون بولص ووديع سعادة» كتاباً تمتع قراءته وتفيد.


الكاتب : سلمان زين الدين

  

بتاريخ : 06/08/2024