رشيد البرومي الموسيقى لحن هوية

التقيته في أكثر من لقاء وعرفته لطيف المعشر، منشرح القسمات ينم وجهه عن تقاسيم طفولية مشاغبة لم تتفارق ملامحه الناضجة وخبرت فيه فكرا يميل الى الغور في غياهب سر الكلمات، واكتشفت فيه ذلك الفضول المشفوع بهوس البحث عن التجديد في اطار الموروث الموسيقي العربي والمغربي. لقد تألق في ألحانه، التي أعطت نفسا حيويا جديدا لعدد من الأعمال المسرحية أو السينمائية أو للمسلسل التلفزيوني، فقد حمل رشيد البرومي في أعماله الغنائية مهمة إعادة الاعتبار للأغنية المغربية لجيل سنوات الثمانينيات والتسعينيات، هاته الأغنية التي يرى البرومي في لقاء أجرته معه المحطة التلفزيونية المغربية الثانية «دوزم» في برنامج «ضيف الاحد»: «أنها تختفي شيئا فشيئا». كما يرى أن هذه الأغنية يجب العمل على النهوض بها وإعطائها: مكانتها الحقيقية كتراث مغربي يجب الاشتغال عليها بآليات وأساليب جديدة تراعي ما وصل إليه التطور والتقدم الموسيقي.
إن تمسك البرومي بالهوية الموسيقية العربية والمغربية لم يكن صدفة وما اختياره لكلمات شعراء من المغرب والعالم العربي أو كتابته نفسه قصائد، إن هو إلا تعبير عن هوية موسيقية تمتد رقعتها عبر آلة العود من المحيط إلى الخليج.
لقد اختار البرومي آلة العود كعمود فقري لألحانه، وهذا الاختيار عند البرومي هو اختيار عن وعي مسبق لآلة متكاملة متعددة الجوانب وذات خصوصية في الحضور الموسيقي العربي، فاحتواؤها على ربع المقام هو ما يمنحها هذا الحيز من الانتماء الى الموروث الثقافي العربي وهو: «ما لا يمكن أن نلاقيه في آلات أخرى مثل القيتارة أو البيانو، التي لها طبيعة سلم موسيقي غربي محدد، بينما العود يحمل داخله هذا الجزء المتفرد من التراث العربي،“ يقول البرومي، الذي يعتبر اختياره للعود مع إتقانه لآلات وترية أخرى، انحيازا لهوية موسيقية عربية عامة ومغربية خاصة.
الموسيقى والحضور الدرامي
إن لرشيد البرومي وجوها متعددة تحكمها الكلمة الملقاة والعبارة الموسيقية المغناة، فهو مؤلف ألحان وشاعر كلمات تلبسه القدر إلى لقاء جملة من مسرحيي جيل المعهد العالي للغن المسرحي والتنشيط الثقافي بالرباط التابع لوزارة الثقافة المغربية، حيث عمل ضمن هذا الجيل، الذي اجتهد في إيجاد علاقة جديدة بين الفنون المكونة للعمل المسرحي من رقص وسينوغرافيا وإضاءة.. الخ، كما عمل على إعطاء الموسيقي ضمن هذا التوجه المسرحي الحديث حضورا فاعلا ومكانة درامية حقيقية. «لقد كانت الموسيقي، «يقول البرومي»، قبل سنوات التسعينيات حاضرة في المسرح، لكن دورها كان تأثيثيا، أي يجب أن تكون الموسيقى في المسرحية من أجل الموسيقى فقط. لكن انطلاقا من التسعينيات إلى الآن أصبحت للموسيقى مكانة رئيسية مؤثرة داخل البناء المسرحي.
إن هذه الطفرة النوعية لوظيفة الموسيقى في الأعمال المسرحية المغربية، يعود الفضل فيها إلى جيل كامل من المبدعات والمبدعين الشباب في المسرح المغربي، الذين نقلوا إلى المهرجانات العربية والأوروبية نفسا مسرحيا حيويا أحرزوا من خلاله على جوائز مسرحية عديدة.. و يحضرني من هذه الأسماء لا على وجه الحصر، أسماء هوري، نعيمة زيطا ، محمد هواس ومحمود الشاهدي.. والبرومي أحد الفاعلين المؤثرين في هذه الأعمال المتميزة . لقد منح البرومي عبر أسلوب الأداء الموسيقيى الحي فوق الخشبة نفسا دراميا جديدا ذا بنكهة ثرية، فانتقلت الموسيقى من خانة الثأثيت الكمالي إلى جمالية فاعلة ومؤثرة لها دورها الدرامي في الفعل المسرحي الشامل، بل تجاوزته إلى التأثير في صيغة التصور السينوغرافي وأحيانا تصورات المخرجين أيضا. إن للبرومي أسلوبه الخاص في التعامل مع العمل المسرحي، إنه يعتبر نفسه: «جزء لا يتجزأ من العمل المسرحي في شموليته، فهو يتوحد مع النص المسرحي، يقرأه قراءته خاصة، يستنطقه، يكون عنه تصوره الخاص، يحضر التداريب كبقية الأعضاء الفاعلين من ممثلين وطاقم تقني، يتدرب على الموسيقي أثناء تداريب الآخرين إلى أن يصل هو الآخر إلى صيغة موسيقية ملائمة لتصوره الذاتي للمشهد أو اللقطة أو للمسرحية عامة. وكل ذلك يتم ضمن إيقاع المسرحي الكلي والجزئي، الذي يحكم العمل من البداية حتى النهاية»، يقول رفيقه في العمل السينوغراف يوسف العرقوبي.
الموسيقي اذن العرض
إن لأسلوب تأليف رشيد البرومي الموسيقي المسرحي رشاقة تمنح الفرجة المسرحية نكهة مميزة سواء على المستوى الدرامي أو على مستوى الجمالي المواكب الحدث. إنه يشغل حيزا سمعيا يذوب فيه المشهد المسرحي بين الموسيقى والصمت، لأن الصمت موسيقى كما يقول هو نفسه، يغذي النص المشتغل عليه بفواصل موسيقية ذات لوحات تكتب بمداد ألوان النبرات والزفرات والأوتار المنسابة. إن أسلوبه التلحيني ليس محايدا ولا يقف متفرجا أمام ما يدور فوق الخشبة، بل إن له مشاركة إبداعية وحضور خلاق في العمل المسرحي، قد يؤدي أحيانا إلى خلافات مع المخرج أو السينوغراف، لكنها خلافات تمراث تعطي أكلها وذات قيمة..، في هذا الصدد يقول الكاتب المسرحي المغربي عصام اليوسفي: « لقد تعرفت على البرومي في أعمال مسرحية عديدة سواء، التي كتبتها أو تعاونت فيها مثل مسرحية «بسيكوز»، «الدموع بالحكول»، «ميزان الماء» أو «خريف» من إخراج أسماء هوري، فقد كانت له اقتراحات أثناء العمل مهمة جدا. لا يمكن المرور دون التوقف عندها والتعامل معها بوعي يقض».
على الرغم من إسهاماته المتميزة والمتواصلة في مجال الاغنية، التي يسند أداءها إلى أصوات ذات نغم خاص مثل الفنانة خديجة العامودي، ذلك أن البرومي لا يعتبر نفسه مطربا ولا مغنيا..، وعلى رغم تأليفه الموسيقى لأعمال سينمائية وتلفزيونية وفيلم «موسم جاف» لرضوان قاسمي ما هو إلا واحد منها، فإنه ينجذب إلى التأليف الموسيقى المسرحي، الذي يرى فيه نوعا من الأدوار الفاعلة في العرض المسرحي برمته. فعزفه الحي فوق الخشبة هو شيء نادر قلما نلاقيه في أعمال مسرحية كثيرة ويتطلب، كما يقول البرومي: «إلماما بمكونات خصوصية العمل المسرحي، إضافة إلى ضرورة التعامل مع النص المسرحي من خلال التجاوب معه واكتشاف بنائه الدرامي وإيقاع العرض العام وبما يتضمنه من حركات الممثلين وإيقاع الضوء والمؤثرات الفنية الأخرى وأيضا الإطلاع على نوعية توجه العمل الذي تشتغل عليه، عبثيا كان أو واقعيا أو ملحميا..، ومن هنا يجب الاطلاع على هذه الأشكال التعبيرية كثقافة مسر حية، ثم بعد ذلك ينصهر ويأخذ العمل الموسيقي مكانته داخل العملية المسرحية الشاملة، وهذا يحدث لاحقا، ففي تقديري الشخصي، بعد هذا ينصهر العمل الموسيقي داخل العمل المسرحي بشكل منسجم، ليشكل إلى جانب العناصر المعبرة الأخرى، عنصرا تعبيريا داخل المنظومة الفنية العامة للعمل المسرحي. لقد شاهدت مجموعة من المحاولات في التلحين المسرحي وكانت الموسيقى رائعة جدا، لكنك تحس بأنها منعزلة عن النص، تسرح بك إلى مكان آخر بعيدا عن العمل الذي تشاهده. فإذا سرحت موسيقتك كملحن بتفكير المشاهد عن ما يدور في المسرحية، فقد فشلت في هذه المهمة، لأن العمل الموسيقي عليه أن يكون عنصرا من عناصر العرض لا أن يكون جمالية لها خطها المنعزل عن السياق الفني المسرحي العام ».
حضور الموسيقى
وغياب جائزتها
لقد ناضل البرومي ولا زال يناضل، من أجل حمل مسؤولي الثقافة على إحداث جائزة للموسيقى التصويرية في المسرح مثلها مثل الجائزات الأخرى للإنارة والسينوغرافيا والعمل المتكامل والإخراج والملابس.. الخ. فللموسيقى دور فعال يقر به النقاد والفاعلون المسرحيون، غير أن هذه الجائزة لازالت غائبة في كل الملتقيات المسرحية، سواء التي تنظمها وزارة الثقافة أو الهيئات المماثلة. فمع الإصرار الدائم للنقابة المسرحية المغربية وفيدرالية الفرق المسرحية المحترفة على إحداث هذه الجائزة، تبقى هذه لاغية الوجود. إن هذه الجائزة يقول البرومي: «أصبحت مهمة جدا نظرا لقيمتها الاعتبارية، التي سوف تكون حافزا للاهتمام بهذا المجال ولا يبقى إنجازه محصورا علي وعلى ثلة من الملحنين، إننا في حاجة إلى انخراط موسيقيين آخرين في هذا المجال كمشجع لهم على المضي في هذه التجربة بحب وحيوية خلاقة».
لقد عمل البرومي ضمن نشاط جمعية أنفاس، التي يرأسها، على الالتزام بالقضايا الإنسانية سواء داخل المجتمع المغربي أو المجتمعات الأخرى كرافد من الروافد الهامة في التوجه إلى نبش قضايا مسكوت عنها أو على الأقل يتم تفاديها مثل السرطان، الموت، أو عن سنوات الرصاص في المغرب، التي عبرت عنها أنفاس في عمل „العذراء والموت» المقتبسة عن نص للكاتب التشيلي أرييل دورفمان، وكيف يمكن اللجوء إلى الفن كبديل إصلاح عملي غير الخطاب السياسي. أو لقاء الجلاد والضحية في عمل الدموع بالكحول للكاتب عصام اليوسفي. أو العمل الذي ينحاز إلى المساواة في إطارها العام
«ميزان الما فوق الخشبة» عمل شراكة مع الفرقة السويدية يوردبرو فارلدس أوركستر.
إن هذا الاختيار الثقافي الملتزم يطل علينا البرومي به من خلاله بأشعار لشعراء لهم صيتهم الوازن في خط الالتزام بقضايا التحرر الانساني، فمن آخر أعماله لحن البرومي قصيدة محمود درويش: حين أعود إلى البيت وحيدا فارغا إلا من الوقت. و التي كثيرا ما تذكرنا بألحان مرسل خليفة.


الكاتب : برلين: ادريس الجاي

  

بتاريخ : 04/12/2020