رواد الفن الأصيل مدرسة تستدعي التعلم منها لا الاستخفاف بها والتنكر لها: دعوة صريحة لإصلاح شأن الأغنية الأمازيغية الأصيلة وإعادة هويتها بالابتعاد بها عن مظاهر التشويه والارتزاق

 

تحمل الذاكرة الفنية بالأطلس المتوسط، على جدرانها نقوشا فنية رصعتها أغاني أمازيغية، مختلفة الألحان والإيقاعات، وبقيت شاهدة ولازالت على مراحل فنية مجيدة، نحتتها أصوات رقيقة، مشكلة بذلك موروثا فنيا أصيلا، ومع مرور الزمن، أصبحت هذه الأصوات الفنية تؤدي دورا «دبلوماسيا» فنيا إلى أن لقب بعض أصحابها بسفراء الأغنية الامازيغية، والكثير منهم رحلوا، وفي قلوبهم أوجاع عميقة، فقط لأنهم عشقوا الفن وأعطوه كل حياتهم، لم يدركوا يومها أن الفن لن يكسبهم الماديات، ولن يجنوا منه شيء، سوى عشق الجماهير الطويلة العريضة، التي تعلقت بهم، وبما جادوا به.
كانوا يتألمون لنتسلى، ويبكون لنطرب، ويشقون لنسعد، وينوحون لنشجى، ويموتون لنحيا، فما أكثر التضحية التي قدموها للفن، وما أعظم الأثر الذي تركوه خلفهم من الأغاني التي تجسد القيم الاجتماعية التي تتقيد إلى حد كبير بالأخلاق، وكانت كلماتهم مزيجاً من القصائد ‎العاطفية، حول الحزن والعشق البريء، والشكوى والذل والنواح، فضلا عما ترمي إليه المعاني من الاستكانة ولوعة الحب والحسرة من هجر الحبيب والغدر، عكس ما أصبح عليه الفن اليوم من انحراف عن مساره وهبوطه السريع إلى الأسفل بعد أن ركب موجته مرتزقة الفن، وحولوا أغاني الرواد إلى صراخ وضجيج مع موسيقى صاخبة رنينية.
كما تم تشويه محتوى أغاني الرواد، والاعتداء على حقوق أصحابها، واستغلالهما دون الحصول على ترخيص قانوني مسبق، وعدم احترام مقتضيات التشريع الوطني المتعلق بحقوق الملكية الأدبية والفنية، ومن بين هذه القطع التي تعرضت لتشويه كثيرة نذكر منها نموذجا، وعلى سبيل المثال لا الحصر، قطعتين، الأولى «إِذْ إيمانو أين غُورِي ديوين أزال»، للفنان المرحوم محمد حافتي، مع الفنانة عائشة تغزافت التي سجلت بدار الإذاعة أوائل الستينيات من القرن الماضي، والثانية للمرحوم محمد رويشة «أزيل أزيل»، ويتفاجأ الوسط الفني بحالة من حالات السطو عليها، من دون مراعاة الحقوق الملكية والفكرية والإبداعية كما سبق ذكره، مع تمويه المستمع في السطو المكشوف.
إذن نحن الآن أمام أكثر من قضية.. قضية السطو على الكلمات واللحن وقضية سلب الملكية من أصحابها الحقيقيين.. وقضية تجنّي إفساد شاعرية الشاعر وشاعرية الكلمات وتحريف الحقيقة الأصلية، هذه الظاهرة الخطيرة التي تسبّبت في هدر حق هؤلاء الرواد الذين رحلوا عن الدنيا، ولم يجدوا من يعيد الحق إلى أسرهم أو يردّ لهم الاعتبار الفني، إن هذا الفعل الشنيع ارتكبه من لا ضمير له في احترام الفنّ والمهنة بسرقة الكلمات بحرفيتها ومضغها أثناء أدائها، لأنه لا يملك أي قدرة على الإبداع والتغيير، وأكثر ما يثير السخرية أنه يتبجح بها للشهرة فيصيب بذلك أجر السرقة بحصد ثناء لا يستحقه، فمواصلته اليوم على هذا المنوال يجعل ثقافة أبنائنا على المحك.
بات لزاما على الجميع الدعوة إلى إنقاذ الأغنية ألأمازيغية من سوق المتطفلين، وبازدحامهم يسد الطريق على كل غيور متحفز لإصلاح الوضع الفني المتردي الذي آلت إليه الأغنية بالأطلس المتوسط، فلدينا المواهب والطاقات والقدرات والكفاءات لإعادة الأغنية الأمازيغية إلى سابق ازدهارها وتألقها، ولا ينقصنا إلا قناعة واتفاق على إعادة النظر في الوضع الغنائي برمته من أجل الحفاظ على الهوية الأمازيغية للأغنية من جهة، والارتقاء بها لحنا وكلمة وأداء من جهة ثانية، حتى يعود لها مجدها الفني الذي صنعه الرواد من شعراء وعازفين ومُغنيين كبار ما زلنا نعتد بهم ونستذكرُ جهودهم الفنية التي ارتقت ولا شك بالمستوى الغنائي الأمازيغي كما ارتقت بمشاعرنا وأذواقنا وثقافتنا أيضا.
ولا بد من استراتيجية فنية ننطلق من خلال ما ترسمه لنا من رؤية وأهداف إلى آفاق جديدة لصناعة الأغنية بما يضيف لها من وهج وإبداع وينتشلها من هذا الوضع الهابط الذي تعاني منه في فقدان وزنها الفني، وحتى نقف على عتبة إحيائها وإعادتها إلى جادة الصواب، لا بد للنقد الفني الجاد والأصيل أن يأخذ دوره ونصيبه في فتح الباب لأغنية البديلة التي تقنعنا قبل أن تطربنا، فللنقد نصيب الأسد في إعادة ترتيب البيت الغنائي، هذا البيت الذي أصبح في أمسّ الحاجة إلى الترميم والصيانة والترتيب الذي يعيد له رونقه وجماله، حتى لو استدعى ذلك عقد ملتقى فني أمازيغي للبحث في أزمة الغناء الامازيغي بالأطلس المتوسط وسبل الارتقاء به.
ودون ذلك، ستبقى الأغنية الأمازيغية بالأطلس المتوسط بلا هوية حضارية تميزها وبلا سمات فنية نابعة من بيئتنا وغير بعيدة عن قيمنا ومُثلنا وعاداتنا الاجتماعية، ومعبّرة عن أفراحنا وأحزاننا وأحلامنا الخاصة بنا، ومستشرفة لطموحنا نحو مستقبل يكون أكثر إشراقا، ودعوتنا هذه لا تعني بحال من الأحوال إدارة الظهر لما طرأ على حياتنا من تطور حضاري وتغيير وحداثة على كل صعيد، فنتشبث بالماضي مطالبين بأن تبقى الأغنية الأمازيغية أسيرة له ورهينة عنده، كما هي ليست دعوة إلى الانغلاق أو اتخاذ ماضي الأغنية ملجأ للسلامة الفنية العامة، و إنما هي دعوة صريحة لإصلاح شأن الأغنية الأمازيغية وإعادة هويتها بالابتعاد بها عن التشويه.
فالجمع بين الأصالة والمعاصرة في طبيعة الأغنية الأمازيغية الحديثة ضرورة فنية وحاجة حضارية ماسة تحفظ لنا شخصيتنا وهويتنا ومكانتنا في عصر العولمة واختلاط الثقافات والفنون، لا بد من المحافظة على الطابع الأمازيغي لأغانينا، فيما لا ننسى مطلقا أن للأغنية تأثير كبير على مجتمعنا، وخاصة الأجيال الأمازيغية الجديدة المعرضة أكثر من غيرها لمد الحضارة الغربية الذي يحيط بنا من كل جانب.. ولنتذكر القول المأثور، ونحن نعرض لحال الأغنية الأمازيغية «مَن أشهر سيفا في وجه الماضي، أطلق عليه المستقبلُ رصاصة».

(*) باحث في الفن الأمازيغي الأطلسي، صدر له مؤخرا كتاب «محمد رويشة: المرتجل العبقري»


الكاتب : المكي أكنوز (*)

  

بتاريخ : 10/09/2024