رواية «الحدقي» لمحمد فال ولد الدين : سؤالُ إحياء الإرث اللغوي والتاريخ الثقافي

ما سأدوّنه ــــ هنا ـــ من أفكارٍ عن رواية «الحدقي»، للرِّوائي الموريتاني «أحمد فال» مجرّد انطباعاتِ قارئٍ متعجِّلٍ، وليس كلامًا نقديًّا خالصًا؛ فبعضُ الأعمالِ الإبداعية، ومنها العمل الرّوائي لا يحتاج إلى نقدٍ روائيٍّ صارمٍ، بقدر ما يحتاج ـــ في نظري ـــ إلى قراءةٍ مُحِبّةٍ عاشقةٍ؛ لأنَّ مُعاشرة النّصّ، والتقرّب منه، والإنصات إليه بلطفٍ ـــ مثل طفلٍ صغيرٍ ـــ كفيلة بدفع النص دفعًا إلى البوح، وكشف الأسرار المكتنزة في بواطنه، وزواياه، وأدغاله المُوحشة، ومسالكه الصّعبة، وأحراشه الوعرة؛ ورواية «الحدقي» أحسبها من هذا الطّراز الّذي إذا قرأته بمعايير نقدية محدّدة؛ قد لا تعطيك شيئًا؛ لأننا عندما نقرأ نصًّا في ضوء قواعد منهج معيّن قد تفسد علينا احتفاليتنا بالنص، بل إنّنا ـــ وقتئذٍ ـــ نقرأ القواعد المسطّرة سلفًا؛ لأن النص أكبر من المنهج، والمنهجُ الذي يريد أن يحكم قبضته على النّصّ، هو كمثَل الذي يريد القبض على الماء؛ فتخونه فروج الأصابع؛ ومن هنا؛ فالنقد من أجل النقد قد يفوّت علينا فرصة الاستمتاع بالنص.
وعليه؛ ففكرة تأليف الرّواية من لدن «أحمد فال» جاءت في الظرفية التي كان فيها مراسلًا لقناة الجزيرة بحيث تعرّض لفترة اعتقالٍ على أيدي كتائب القذافي في الثورة الليبية، وبعد أن أُطلق سراحه بعد شهْرٍ من احتجازه؛ طلب منه المديرُ العامُّ لشبكة الجزيرة أن يدوّن هذه الفترة العصيبة التي قضاها في السّجن على شكل مذكّرات في وقتٍ كانت فيه قناة الجزيرة تحتفل بالذكرى الخامسة عشر لتأسيسها.
إذا رجعنا القَهْقَرَى نحو النصّ الروائي ـــ موضوع الكلمة ــــ أحب أن أقول: إن هذا النص يتعالى على التجنيس؛ لأنه ليس كتابًا «وكيبيديًّا»، ولا عملًا روائيًّا بالمعنى الحقيقي للرِّواية، وليسَ سيرةً ذاتيةً بالمعنى الأصح، وليس رواية تاريخية، وإنْ كان يضم جماليات تاريخية بين سطوره؛ وإنما هو نصٌ بمثابة قطعة أدبيّة بالغة الرّوعة تميل ميلًا كبيرًا إلى كتب الأدب، التي لا يجمعها جامعٌ واحدٌ، وإنْ كانتِ الشخصيةُ الرّئيسةُ في النصّ هي «الجاحظ»؛ إلا أنه تناول هذا العَلَم التراثي برؤية جديدة أكثرَ تشويقًا، وإثارةً؛ وأهم ما يميّر كتب الأدب سِمَتَانِ اثنتان «الاستطراد المستمر، وعدم الاختصاص، وأحسب هذا النصّ من هذا المهيع اللاّحب.
وصاحبُ النص شنقيطيُّ الأصل، و»شنقيط» كلمة فارسية، معناها: (عيون الخيل)؛ وهي مدينة موريتانية ضاربةٌ جذُورها في التّاريخ القديم؛ فهي ذاكرةُ موريتانية ـــ علْمًا، وحضارةً ـــ وقد اشتهرت بعلمائها، وشعرائها إلى الآن. وممّا يلفت النّظر في النص أن «أحمد فال» ينتصر لأصوله «الشنقيطية» في كثير من سياقات الرّواية، فالأنا الحضاريّ بارزٌ في عمق النص؛ فقد ظل «أحمد فال» محافظًا على عروبيته،وانتمائه، وتقاليده، وعاداته الموريتانية بنكهةٍ بصراوية (نسبة إلى البصرة) بحيث سمّى نفسه بـــ: «القروي»؛ لأنَّ في الرّواية نَصَّيْنِ مُتوازيين بشكل تناوبيٍّ، فهو يتحدّث مرةً عن شخصية «القروي»، الذي يعيش في «الدوحة»، ويشتغل مدقّقًا لُغويًّا في قناة العُروبة، ويتحدّث مرةً أخرى عن شخصية «الجاحظ»، الذي عاش في «البصرة»؛ فكان الروائي «أحمد فال» ـــ وهو يتحدّث عن تجربته الإعلامية بقناة الجزيرة، أو قناة «العروبة» كما يُسمّيها داخل النص ــــ كان يستحضر تجربة الجاحظ التراثية؛ فهناك تداخل فني راقٍ بين الشّخصيتين.
وقد حاول «أحمد فال» أن يضيء حقبة زمنية هامّة من التّاريخ العربيّ الإسلاميّ، وهو العصر العبّاسي، وتركيزه على عصر التّدوين لا يخلو من دلالة؛ فهو عصر الازدهار العلمي، من منطقٍ، وفلسفةٍ، ونحوٍ، وبلاغةٍ.. فهو العصر الذهبي، الذي دُوّنت فيه معارفُ العرب، وإنتاجاتهم في مختلِف مجالات الإبداع شعرًا، ونثرًا. والنص يَحْفُلُ بكتيبة من الأعلام النبلاء المرمُوقين في الحضارة العربية، من هؤلاء: الخليل بن أحمد الفراهيدي ، ومحمد بن إدريس الشافعي وأبو الحسن الكسائي وأبو بِشْر الملقّب بــ: «سيبويهٍ» ، وإبراهيم بن سيّار النظّام، وأبو هذيل العلاف، وعبد الملك بن قُرَيب، الملقّب بـــ: «الأصمعي»، وغيرها من الشخصيات المحورية في التّاريخ الإسلامي.
ورواية «الحدقي» فيها إشارة بالغة الأهمّية، وهي صفة الجُحُوظ، التي تميّز بها الجاحظ، بحيث كانت عيناه جاحظتين، أي: بارزتين، وواسعتين تكادان تسقطان من مكانهما، وهذه الصفة جعلت الجاحظ يهتم بتفاصيل الحياة اليومية في «البصرة» آنذاك؛ فكان له بصرٌ، وبصيرةٌ؛ وهذه الرؤيا مكنته من التقاط التفاصيل العلمية الدّقيقة؛ فكانت عنده نزعة نَحْوَ العقل التّجريبي يقوم بتجارب على بعض الحيوانات، ويدوّن من سلوكياتها. وقد عَمَدَ صاحبُ النص إلى التّحْديق كثيرًا في تفاصيل حياة الجاحظ، فكان يتلقف كل صغيرة، وكبيرة، وقد يُعيب عليه بعضُ القرّاء هذا الأمر، بحيث إن هذا المنزع هو الذي جعل الرّواية تطول إلى أربعمائة، وأربعين صفحة (440)؛فالباحثُ الأكاديميُّ قد تهمّه التّفاصيل؛ لأن ذلك قد يدخل في صميم عمله؛ أما القارئ العادي قد لا يرضيه ذلك؛ لكنني أُرجع هذا الأمر إلى طبيعة عمل «أحمد فال» داخل قناة العروبة، الَّذي يتعلّق بـــ «التدقيق اللغوي»؛ وهذا محله التفاصيل الكثيرة، والشّواهد الشّعرية التي كانت حاضرة في النص.
إن اطلاع «أحمد فال» على تراث الجاحظ (الحيوان، البيان والتبيُّن، الرسائل، البخلاء)، فضلًا عن الكتابات التي دُوِّنت حوله؛ جعلنا نحس بشخصية الجاحظ حاضرة بقوّة في العمل الرّوائي، فقد وُفّق الرِّوائي إلى حدٍّ بعيدٍ في نقل تفاصيل دقيقة عن حياة الجاحظ بأسلوبٍ لُغويٍّ بديعٍ يعتمد على تشبيهاتٍ بالغةِ الدّقّة، والرّوعة؛ فكأنّي به يحمل آلة تصويرٍ ذات عدسةٍ عالية الجودة؛ فيا عجبًا كيف تستطيع اللغة الشُّجَاعَةُ ـــ كما ينعتها ابن جنِّي في الخصائص ــــ نقل الصور دون أنْ يفقد النص ماءه، وبهاءه! ففي النص لُغَتَانِ: لغة «دوحية» (من الدوحة) مُعَاصرة اعتمدها «أحمد فال» عندما كان يتحدّث عن سيرة «القروي»، وتجربته بـــ «الدوحة»، ولغة بصرية (من البصرة) استدعاها صاحب النص أثناء حديثه عن الجاحظ، وهي لغة عبّاسية لم تعد متداولة اليوم، وشرحُ ألفاظها يحتاج إلى معجمٍ.
فحديثُ «أحمد فال» عن «الدوحة» واعتبارها بصْرةً جديدةً حديثٌ مُسَوَّغٌ؛ نظرًا للمنجزات التي تحصل هناك في المجالات كلها، وعلى رأسها المجال الأدبي؛ انطلاقًا من إطلاق النّسخة الإلكترونية لمعجم الدوحة التّاريخي للغة العربية، وإنشاء مكتبة الدوحة التي تضم المخطوطات النادرة، والكتب التراثية التّالدة؛ فضلًا عن عنايةٍ كبيرةٍ بلغة عدنان، وتبويئها المكانة التي تستحقّها.
وأظن أن طريقة بناء هذا النص طريقة مرحّبٌ بها في التعاطي مع الإرث اللّغوي، والتّاريخ الثّقافي؛ لإحيائهما، وتقريبهما من الجيل الجديد، جيل «الفيسبوك»، و»اليوتوب»، و»تويتر».. الذي لم يعد يقوى ــــ في بعض الأحيان ــــ على قراءة الكتب الصفراء، والمجلدات التي تفوح منها رائحة التّراث العربيّ الإسلاميّ، ما دام أنَّ كثيرًا من القرّاء بدأوا يشدّون الرِّحال نحوَ قراءة الرِّواية.
إنَّ النصَّ روضٌ مُريعٌ، ومنزعٌ بديعٌ، وحديقةٌ غنّاء بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى، فـــ «أحمد فال» لم يخطّط لروايته ــــ كما يظهر ــــ بل إنه كان يكتب بحريّة، وانسيابيّة. فأتحفنا بمُلح، وقصص مستوحاة من تراث الجاحظ عُرضت ـــ مرّةً ـــ بأسلوبٍ جِدِّيٍّ مُلْتَزِمٍ، ومرّةً أخرى، بأسلوبٍ أدبيٍّ جاحظيٍّ ساخرٍ يعكس بلاغة السُّخرية، التي تفنّن فيها أبو عُثمان الجاحظ، وكيف لا؛ وهو شيخُ العربيّة، وإمامُ البيان.
وإذا نظرتَ في النصِّ ـــ أطال الله عمرَك ـــ ستجد، لا محالة، هيمنة الحوار على بساط النصّ، وقد حاول صاحبُه من وراء ذلك أن يَخرج من «روتين» السّرد، ورتَابته. والعملُ يستحق أن يُنقل إلى خشبة المسرح، أو إلى فيلم وثائقي عن الجاحظ؛ وأنا واثق أنه سيلقى نجاحًا باهرًا من لدن المتلقي، فالصورةُ أبلغ من الكلام أحيانًا، وقد تُوسّع دائرة التّلقي.
إنَّ ما دوّنه «أحمد فال» في روايته، يعكس موقفه هُوَ من الجاحظ، وقد أُعيب عليه «تقديسه» له، كما أنه لم يبرز لنا بشكلٍ جليٍّ علاقة المثقف بالسلطة؛ انطلاقا من شخصية «الجاحظ» في عصره؛ لكنَّ هذه الهنَّات لا تخدش الصّورة الجميلة التي رسمها لناثرٍ كبيرٍ كان له الدّور الأبرز في فَتْقِ النثر العربي القديم.


الكاتب : محمد حماني

  

بتاريخ : 25/04/2019