رواية «بيني وبين إستير»

القضية الفلسطينية على المحك

بديعة الراضي كاتبة وروائية وصحافية مغربية، وعضوة في عدد من الهيئات الوطنية والدولية، ولدت بتاريخ 8 أبريل 1969، ورئيسة رابطة كاتبات المغرب. حاصلة على شهادة استكمال الدروس (تخصص سرديات)، ودبلوم التكوين في مجال كتابة السيناريو، كما أن لها مجموعة من الكتابات المسرحية كـ “الجلاد”، “السيد ميم”، “رجل من الصحراء”، “شبيهي”. وكذا الكتابات الروائية ك “غرباء المحيط” “حافية القدمين” وغيرها..

أنهيت للتو قراءة رواية “بيني وبين إستير”، التي أعدتها الكاتبة بديعة الراضي، تتكون هذه الرواية من 190 صفحة تتضمن واحدا وعشرين فصلا معنونا، أولها ب “انزياحات نحو الخيال” وآخرها ب “تحديد المسافة” وهي من منشورات دار الثقافة للنشر والتوزيع.
يدل عنوان الرواية على حوار صريح ذي منعطف أدبي، حيث تختلف الرؤى الوجودية وتتشابك في نوع من الحبكة الأدبية، فتحدث سجالا مختبئا بين الجمل والعبارات، رواية أجمل ما فيها معالجتها لقضية تاريخية سياسية، قضية كانت وستظل الأم الروحية للبلاد الإسلامية. وأغرب ما فيها مزاوجتها بين المرأة الفلسطينية والإسرائيلية والمؤلفة الضمنية المغربية الثي تمثل المرأة العربية، وبين الماضي الأليم، والحاضر المستبَد والمستقبل المجهول.
ابتدأت أحداث الرواية في الضفة الأردنية من البحر الميت، بمشهد من الغموض الجلي، ومثال حي للقفل والمفتاح أيهما الأسبق ومن يملك القوة والنفوذ، وارتباطهما الوثيق بمفهوم الخصوصية عند الإنسان وتجذر قيم الملكية والفردية والمادية حتى باتت هذه الفكرة تنعكس على قناعات المؤلفة في كون تسليم المفتاح يفقد الانسان حرية التحكم في ما هو ملكه، أرضه، ترابه، وأشيائه الصغيرة، وبهذا تعطي لمحة خفيفة بأن في الرواية جانبا كبيرا من الفقد.
وقبل إدراج الشخصيات بدأت الكاتبة بوصف البحر الميت على لسان رجل سيشكل قوة قاهرة في سيرورة الأحداث، والشيء الذي سنلاحظ تكراره في مجموعة من الفصول لكون الرواية تدور بين المياه الراكدة والملوحة المفرطة لهذا البحر، أخفض بقعة على سطح الأرض وأكثر البحار ملوحة، وأحد الأماكن السياحية المشهورة جدا، واحتوائه على العديد من المركبات العلاجية والدوائية وطينه المستعمل في العديد من كريمات التجميل.
وندخل في التفاصيل مع “إستير” المرأة الإسرائيلية الستينية التي لا تظهر عليها علامات شيخوختها، لا بل تبدو كشابة في مقتبل العمر وهي السيدة المتنكرة لهويتها، وكذا المؤلفة الضمنية المنشغلة بسؤال القضية، وجليسها ذلك الشاب الوسيم. تطفو إستير بهدوء منتشٍ فوق مياه البحر الميت، يقابلها الجبل الفاصل بين الأردن وفلسطين حيث الذاكرة الساكنة في العقول والقلوب. وذلك الرجل الذي يراقبها من بعيد بنظرات بركان يتهيأ للانفجار، رجل فقد موطنه، فقد بيته وأرضه، فقد أما أصبح يبحث عنها بين النساء القريبة من الضفاف في يأس دامغ.
تغوص بنا الروائية في نقاش محتدم واضح الهوية. لقد أبدعت بديعة الراضي في تشخيص القضية الفلسطينية، ولعلها تحاول أن تصور الجدل الحاصل منذ الأزمنة الغابرة، بصوت شخصيات متضاربة منهم من رأى أن الشعب ضحى بالأرض وباع القضية، ومنهم من هو مستعد دوما أن تسيل دمائه فوق ترابه، ومنهم من يرى أن الملكية لا تزول بالاحتلال، وآخر يشجع الحوار والسلمية ويعتبرهما الحل الأنسب لإنهاء القضية.
وفي هذا السياق الجدلي الرائع من حيث لغة الحوار وأسلوب التصوير، تحدثت إستير عن الدولة التي تؤمن بها، وأن النساء في موطنها استطعن أن يفرضن أنفسهن ليصبحن متساويات مع الرجال. وكان في خطابها نوع من العدالة بين إنسان وإنسان، ضفة وضفة، لون ولون، شرق وغرب، شمال وجنوب… ولكن لن تغيب الحقيقة هنا عن الجميع، وما الحقيقة إلا دلال (المرأة الفلسطينية المؤمنة بوطنها) وفادي وسليمان وأكرم ونور المنشغلون بحرارة لهيب الاحتلال، وارتفاع وتيرة الاستيطان، الذين يتحدثون لغة واحدة وهي التحديات الكبيرة في فلسطين والقدس.
واصلت دلال مرافعتها، قائلة إن القضية التي تجمعهما قضية وطن مسلوب وأرض مغتصبة وإهانة إنسان، كما كشفت دلال عن الحب الذي لا يجد لغة له إلا في انتظار زوج معتقل، ومعاناة الجوع، وقمع العساكر، والاعتقال، وهدم البيوت، وإحراق حقول الزرع.
تنساب أحداث الرواية انسيابا، وتأخذ منعرجا آخر في لوم صريح اللهجة لإستير الثي تمثل الكيان الصهيوني، وطلب مباشر لها بالرحيل. كما اختارت الروائية في نوع من الحبكة المتقنة تمرير رسائل مشفرة عن القضية، على لسان ذلك الرجل المشتاق لتراب وطنه، المؤمن بانتمائه، وككل المترافعين عن ترابهم، المسلِّمين بفلسطينهم، لا يريد هذا الرجل سوى وطن، رغيف خبز، وسقف وشعور بالانتماء، دفء وإحساس بالكرامة بعيدا عن الحزن والكره والانتقام.
ومع احتدام النقاش بين امرأتين بينهما قضية وجرح ودم شهيد (دلال وإستير) اختارت الروائية أن تضفي طابع الرأي، وأن تشارك في الحوار بوضعها اللائمة هي الأخرى على إستير التي تحولت إلى جلاد وهي تترافع عن الإنسان حتى بالغت في التمادي وتزوير الحقائق. وجاء في الصفحة 132 “وأنت في برجك المحاط بكثير من أدوات إيصال صوتك إلى مسامع العالم وقدرتك الفائقة على تزوير الحقائق، وكأن جبال نابلس، وجبال القدس، وجبال الخليل ومجاورهما، بل وحتى ما تبقى من التراب المغتصب، هو ملكك باسم يهودا والسامرة”.
باتت إستير بتصريحاتها المعادية صانعة حرب باسم السلام، كأنها قنبلة موقوتة مصنوعة بينهم، أصبحت فجأة هي الكيان الصهيوني بعدما كانت تخفي هويتها، وتختبئ وراء أوراق بلد آخر. وضعت نفسها في مواجهة مباشرة مع الحقيقة، كاشفة عن شراستها، وقدرتها الخارقة على ممارسة الظلم.
استغلت الروائية سيرورة الأحداث، وشخصت القضية في إستير واصفة إياها بالظلم والاغتصاب واقتحام التراب، ومطالبة لها بالرحيل قبل انقلاب الطاولة. وفي مشهد من التحدي قالت بديعة الراضي في الصفحة 161 “نحن الحلقة الأضعف يا إستير مؤكد، ولكنك لست الأقوى، من منطلق قناعتنا بأن حركة الدمى تنتهي عندما تنشغل أيادي محركيها ببعثرة أوراق الشطرنج”. كما وجهت الكاتبة طلقات نارية بطابع أدبي بأن دماء الأبرياء لن تذهب سدى، وبأن القضية مسألة وقت فقط، والبقاء في القمة لن يدوم.
وبعد كل اللوم والتأنيب، أخدت الأحداث منعطفا آخر في نهاية الرواية، منعطف يدعو إلى السلام، منعطف انتصر لفرسان القضية بصوت الضمير، صوت الأنا والأنت والنحن، صوت الحقيقة والجرأة والشجاعة” ولنستمر من أجل أن نبني معا الجمال في كافة الجسور، ولنشيد مدنا من السلام”. وكانت هذه هي الجملة الأخيرة.


الكاتب : مريم القبش

  

بتاريخ : 15/09/2023