رواية «حي نوليندورف» .. مرآة واحدة لوقائع متعددة

« لقد أخبرها بأن روايته التي لم تبدأ بعد تراوح ما بين الشياطين والملائكة٬ ما بين تلك القلوب المظلمة التي أعمتها خرافة تميز العرق الآري على بقية الأجناس٬ وبين تلك القلوب المليئة بالنور وهي غالبية الشعب الألماني»
(عبد الحكيم شباط٬ رواية حي نوليندورف٬ ص97)

«حي نوليندورف»٬ رواية للأديب والأكاديمي السوري المقيم في ألمانيا عبد الحكيم شباط٬ الصادرة مؤخرا عن دار الدليل للطباعة والنشر ببرلين(2021) وهي تقع في 165 صفحة من الحجم المتوسط٬ وتشكل امتدادا جماليا وفكريا لروايته السابقة «شارع بودين» وتكاد تكون قضية الهجرة والاندماج داخل المجتمع الألماني هي الرؤية السردية المهيمنة على الرواية٬ بحيث يمعن الكاتب في إبراز بنية الصراعات والعلاقات المتشابكة التي تحكم تفاعلات المهاجرين العرب بأقرانهم الألمان، كما يتوغل كذلك وبحس نقدي في كشف الطبقات العميقة للتدافعات الاجتماعية، وإماطة اللثام عن ما يتوارى حولها ويتخفى في الغور السحيق.
وفي هذا المقام تستند الرواية، من ألفها إلى يائها، لرؤية سردية ثقافية تعكس الواقع القهري لبعض المهاجرين بألمانيا عبر تسليط الضوء على ثلة من القيم (خيانة٬ حب٬ تآزر) وزمرة من السلوكيات (عنف٬ حقد٬ غيرة) المتدافعة في ما بينها وفق مستويات الزمان والمكان والحوار والشخصيات٬ وهي نفس الرؤية التي تحكم رواية «شارع بودين» كذلك٬ إذ اعتمد المؤلف عبد الحكيم شباط على أساس هندسي سردي قائم ، مرتكز يعرف بتقنية التناوب الملائمة بشكل عام لخصوصية المتن الحكائي المركب٬ خصوصية تتجلى في ما نستشعره من انتقالات سردية منتظمة بين مختلف شخصيات المتن الحكائي٬ بحيث يعمل في كل فصل بسرد جزء من حكاية شخصية روائية لينتقل بعدها في الفصل الموالي لسرد الجزء المتبقي وهكذا دواليك٬ وهذه التقنية لا يقتصر مفعولها وأثرها الإيجابي طبعا في تمكين السارد من تغطية شاملة ومتزامنة لمجموع حكايات الشخصيات فقط، وإنما يتعداها نحو تضميخ الرواية بألق وتشويق خاصين.

• أحلام منكسرة فوق صخرة الواقع

تتمحور الرواية بالأساس حول شخصية موظفة ذميمة الخلقة تعمل في مكتب لمنح الإقامات للأسر المهاجرة تقوم بخبث وحقد دفين من خلال الصلاحيات المخولة لها باضطهاد المهاجرين وعرقلة حصولهم على أوراق الإقامة، واستفزاز طالبي المواطنة منهم بشكل متعمد وبكل الطرق وبحجج واهية تبرع دائما في اختلاقها من قبيل أن الملف قيد الدراسة أو تنقصه ورقة من الأوراق وهلم جرا.
كما يقتفي الراوي جوانب مهمة من حياة هذه الموظفة تقترن بشكل وثيق بما هو فيزيولوجي ونفسي واجتماعي في بعدها العلائقي مع جيرانها المهاجرين القاطنين بحي نوليندورف، ليرصد ملمحا من سلوكياتها السادية في حق هؤلاء الجيران والتي تتجلى بالأساس في انتشائها وتلذذها بواقعهم المرير٬ وتتضح كذلك في اتهامها لمفتاح بالسرقة ظلما وبهتانا والشتائم التي تهمهم بها بين الفينة والأخرى كلما رأت أحدهم٬ وطرق السقف بكعبها الفولاذي وغيرها من السلوكيات الأخرى التي تنم عن كراهية مقيتة لم تنج منها حتى أمها التي نالت منها مقدارا وافرا من الألم والذل والشقاء في سنوات شيخوختها.
وفي هذا الإطار جاءت الرواية لتؤكد وتضيء حقيقة ما يجري في بعض ردهات الإدارات الألمانية التي تعالج ملفات المهاجرين من تلكؤ وتعقيد في الإجراءات، ومعالجة مطولة لطلبات التجنيس وما إلى ذلك٬ ولتنزع كذلك غطاء الطهرانية عن الإنسان الغربي وعن الواقع الغربي الذي سقطت منه مجموعة من الرموز واضمحلت فيه مجموعة من المبادئ نحو ما هو سلبي.

• مدارات الأمل ومسارات الألم

تحضر في فضاء الرواية مجموعة من الشخصيات المهاجرة التي تعيش نوعا من الاغتراب والانكفاء على الذات، وعدم القدرة على المواجهة والسيطرة على الأوضاع وكذلك الخروج من براثن الظلم والاستبداد الناعم٬ وهي شخصيات متعددة الجنسيات: من سوريا وتركيا وإيطاليا وما يجمعها أنها مثقلة بالانكسارات٬ وشخصية المثقف التي جسدها الدكتور نور الدين أستاذ الأدب المقارن٬ خريج جامعة الهومبولت والذي يعمل في نهاية المطاف بائعا في مطعم للدجاج المشوي٬ وأيضا شخصية شخصية المهاجر التركي تونجاي الذي اكتشف في الأخير أن جسده في ألمانيا لكن روحه مازالت معلقة في أنقرة لخير نموذج على ذلك.
ونجد هنا أن الروائي قد تجشم مسؤولية الحفر السوسيوثقافي لمختلف الشخصيات التي وسمت الرواية، كما حاول لمس معالمها المحورية الممزوجة بالأمل حينا والمطبوعة بالألم حينا آخر.
وضمن هذا السياق تتناول الرواية جدلية الأنا والآخر بعمق فكري وصفاء ذهني، انطلاقا مما يحمله متنها السردي من ثنائيات متضادة، تعكس العلاقة المضطربة بين الغرب والشرق بأساليب سردية توحي بنوع من الجدة في الطرح من خلال الإسهاب في تبيان معاناة المهاجرين من جهة، ومن جهة أخرى الكشف عن التعاون والتآزر الذي يطبع علاقات المهاجرين في ما بينهم وما يتولد عنه من انمحاء للاختلافات وذوبان للفوارق وبطلان للصراعات.
مما لاريب فيه أن رواية «حي نوليندورف» قد جاءت كرد فعل على الاضطهاد والعنصرية التي يعاني منها بعض اللاجئين بألمانيا خلال العقدين الأخيرين، فهي بمثابة مقاومة فكرية للكشف عن جذور وأصول هذا الاضطهاد والعنصرية٬ كما أنها شكل من أشكال المناهضة التي تعتمد النص والترميز والإشارة.
ومما لا شك فيه كذلك أنها تمارس الكثير من النقد اللاذع للكراهية والعنصرية التي يعاني منها المهاجرون٬ ولعل ما أسعفها في ذلك هو توظيفها لتعدد الأصوات وتنوع الأحداث التي تقتات من مخزون الواقع.


الكاتب : عزيز غنيم

  

بتاريخ : 12/10/2021