هل هي سخرية من القدر أن يعمل على جمع الذئب وطريدته في آخر العمر، وبعد سنوات طويلة من حادث المطاردة، والمخاتلة للقبض على الطريدة التي تمنعت ولم يتم القبض عليها، رغم الحيل والشراسة والمتابعة؟… لقد بذل «الذئبان» المطاردان كل جهدهما للحصول على الطريدة الهاربة لينهيا مهمتهما وعملهما الذي جاءا من أجل تنفيذه .لم يتم القبض على الطريدة الهاربة في ذلك الزمن البعيد ، حين كانت فتية ، تتحلى بالصحة والعافية ، وها الطريدة اليوم في مكان لا يخطر على بال ودون سابق إعلان تلتقي بالرجلين اللذين كانا يطاردانها ويعملان بجهد للحصول عليها، دون أن يعلم أي واحد منهم بهذا الأمر.
وحدها الصدفة جعلت المخبرين وموزع الرسائل «نافع» يلتقون في مكان واحد وقد أخذت منهم الحياة كل إمكانات الصحة والعافية، وتركتهم في آخر العمر ينهون أيامهم الأخيرة بالاعتماد على الأدوية لعل بعض الأيام تسعفهم في البقاء والعيش.
بعد رحلة دامت خمسين سنة، يلتقي «إدريس الأول» و«إدريس الثاني» مع من كان طريدتهما في زمن مضى، الرقاص كما كانوا ينعتونه بحكم توزيعه للرسائل بين مدن المغرب في الجنوب ، لقاء جادت به الحياة في لحظة لم تكن في البال ولا منتظرة الحدوث، لقاء سيأخذ برأس خيطه الروائي المغربي «يوسف فاضل» في روايته الموسومة «مثل ملاك في الظلام»، الصادرة عن دار الأداب اللبنانية ، ليبني من خلال استعادة الرجال الثلاثة لإحدى الحوادث الماضية التي كانوا شركاء في حدوثها ويجهدون في إيقاظ ذاكرتهم لاسترجاع تفاصيل ما جرى أنذاك فانساقوا في رواياتهم التي كان كل واحد منهم يرويها من زاويته ويستعيدها بالشكل الذي يعتقد أنها جرت به، والحادث كما ترويه الرواية هو لحظة إشعال النار في بيت «نافع» للقبض عليه من طرف المخبرين المطاردين له، لأنه هو أخ العبد المفقود من لائحة العبيد التي تسلمها القصر الملكي والذي مات أثناء عملية الإخصاء من طرف «المقري» وبما أنه مات فيجب تعويضه بآخر، وهذا الآخر لم يكن سوى أخيه «نافع» الذي لم يفلح الشرطيان في القبض عليه فمرت السنوات، وفي الأخير شاء القدر أن يلتقوا بالصدفة، في فضاء عمومي مملوء بالناس ، فاختار المخبران سطيحة المقهى بينما من القرب منهما كان «نافع» حارس العمارة، ينصت لحوارهما و يتابع لجاجتهما في الكلام، وصوتهما المرتفع الذي كان يغطي على أصوات زبناء المقهى…..
يبرع يوسف فاضل كما العادة، في تأثيث مشاهد مليئة بالحركة والدينامية الى حد كبير، فتأتي مشاهد لست تقرؤها فقط، بل تلمسها وترى شخوصها تتحرك وتملأ المكان حولك وتسمع أصواتها وهي تتحدث، مشاهد يخلقها بلغة خاصة بكل لقطة. ففي الرواية يستحضر الكاتب تلك المقولة المعروفة’ضحك كالبكاء’، فعديد من المشاهد تثير الضحك، والسخرية، ولكنها تلك السخرية السوداء وذلك الضحك المرير، الذي حين تنتهي منه بعد الدهشة الأولى، وتعود إلى نفسك، تجد أن آثار الوخز تسري في أعماقك وتنتبه إلى سوداوية المشهد في الحقيقة، وليس إلى مايبعث عليه من ضحك في المرة الأولى، تحضر هنا كل جهود المخبرين)ادريس الأول وادريس الثاني (اللذين يريدان القيام بتجربة الإخصاء لأنهما يريدان أن يأخذا العبد ) الحرطاني (نافع إلى القصر وهو مخصي، وفي غياب «المقري» وبعيدا عنه. فيجب أن يقوما بعملية الإخصاء وحدهما واعتمادا على نفسيهما لذا نجدهما يجربان الأمر على بائع التمور فيقتلانه لأنهما لم يحسنا العمل ويتقناه، وبدأ التفكير في تجربة أخرى لعلها تنجح، لذا يسرقان كلب «جيجي» صاحبة الفندق لإجراء تجربة إخصاء أخرى عليه ، هذا مع أن ادريس الأول هو القائد بينما ادريس الثاني هو المرؤوس التابع، لكن نجد أن خطط المرؤوس والتابع هي الأذكى، وهي التي تنجح وتنقذ الموقف ، بينما خطط الرئيس الغارق في الشرب، وفي فقدان الوعي، فدائما ما تفشل وتؤدي إلى الكوارث، وللقيام بهذه الأفعال مع محاولة القبض على الرقاص نافع ، فقد كان يتخفيان، وفي كل بلدة يظهران بصورة مغايرة للصورة السابقة حتى لا ينكشف أمرهما أمام الناس ، فيفتضحان.
هذه القدرة على صنع خلطات مختلفة من الدهشة و الغرابة ومواقف تبدو وكأنها لا يمت بعضها لبعض بأية صلة ، غير تلك القدرة الهائلة على جعلها مستساغة قرائيا و جماليا وكأنها لوحة « كولاج « من الطراز الرفيع تعبر عن حالة عند لحظة حدوثها ، فموزع الرسائل»نافع» وهو غارق في استيهاماته وخيالات عشقه لإحدى الفتيات بيضاء البشرة) زنجي يعشق فتاة بيضاء (يحاصره شابان وهو في حضرة فتاتين ، يحاولان أخذهما منه بالقوة ، فيخرج المسدس من جيبه وعوض أن يصوبه نحوهما لإخافتهما ، صوب نحو طائر يحوم في المكان، فأصاب جناحه الأيمن فهوى على الأرض و مضى يتحدث عن الطائر وعن هل يشعر بجناحه المكسور أم لا، دون أن يبالي بالشابين قربه اللذين دخلهما الرعب من اللحظة ، فوليا ظهريهما هاربين، بينما ‘’ نافع ‘’ يصيح فيهما بأن يلتحقا بإحدى المنظمات المكافحة ليكون لحياتهما معنى ودلالة ، خاصة وأن البلد يعيش أولى سنوات استقلاله وهناك منظمات وأحزاب سياسية تدور بينها تناحرات وفوضى واقتتال وتصفية حسابات بين الفرقاء للاستئثار بالسلطة.
هناك دائما سوء فهم يعيش عليه البعض تماما كما يفعل «نافع» في انتظاراته المتتالية وغير المنطقية لمن يسميه صديقي «إبراهيم «، إبراهيم المعلم ، كان نافع دائما يراه أو يشبه له بأنه يراه ، بأنه هو ، بينما لاشىء يؤكد له بأنه هو.
ينتظر قدومه وهو لا يعرف هل يوجد في المكان أو غائب عنه . هو ينتظر أحدا أو شيئا لا يوجد، يتهيأ له الأمر في دماغه فيصدقه . يتخيل الأمر في رأسه ويبني مشاريع بينه وبين نفسه حتى دون أن يتأكد بأن ما يراه ويسمعه حقيقي وله وجود في الواقع.
إنه سوء الفهم ، أو العيش على الأمل / السراب هل هو إقناع النفس بشيء غير موجود متوهم للإحساس بالوجود وللتشبت بالحياة ، وجعلها مستساغة نرغب في العيش فيها ؟ نتخيل أشياء ونتوهمها لنشعر بارتباطنا بالوجود بالحياة! الوهم والسراب حين نجعل منهما رابطة لنا بالحياة ، شيء نقبض عليه للاستمرار في العيش وكأنه أخر ما تبقى لنا، ونقنع أنفسنا بأننا نحيا الحياة ونعيشها، وننجز مشاريعنا ونقضي أغراضنا التي نريدها ونحتاجها.
حين تقرأ الرواية، تشعر وكأنك تمشي في صباح أغبش، أو على أرض رملية قامت فيها العاصفة، وصارت ترى ولا ترى، ترى الطريق الذي تريد أن تسلكه، تراه تحت قدميك وفي نفس الآن تخبط بالقدمين في سيرك ، لأن الرمل يسد الأفق أمامك وحباته تنزل على عينك، ثم تفتحهما لترى، ولا ترى!
صباح فيه ضباب كثيف، تتقدم وأحيانا تمد يدك إلى الأمام وكأنك تريد أن تقي نفسك من الإرتطام بشيء تتخيل أنه يقف أمامك، ولكن لا شيء هناك ، هو فقط الوهم، ذلك الوهم الذي يبلبل خطواتك ويشوش النظر في عينيك .العيش في الغموض والبقاء فيه، أما اليقين فلا وجود له هنا، اليقين يقتل الشك ويمحوه، بينما الشك يجعلك تتدلى في الحياة، لا تعرف هل هو النهار أم هل هو الليل ، مادام لاشيء واضح أمام عينيك. العيش في الغموض يتيح البقاء، أو الإطالة في البقاء، في الجري وراء الحقيقة، الحقيقة غير الموجودة، لكن المهم، بل الأهم أنك لاتتوقف عن الجري وراء شيء تعتقد بأنه موجود ، وبأنه في متناول اليد ، قريب جدا من القبض عليه ،لكن لا شيء في الحقيقة يشير أو ينبئ بوجوده «محبوسون دائما في حبال وعود لا تتحقق وأمال لا تأتي ‹الرواية ص 365 – ومع ذلك نظل نلهث وراء الأشياء، نلهث إلى أن تتقطع الأنفاس ونخر فوق الأرض لا نلوي سوى على خيباتنا وتعبنا وانتظارنا الذي لم يأت بشيء. في الرواية أيضا، تختلط الأمور، ولا تصفو. لا تعرف في أي جهة ينبغي أن تسير، لا شيء يستقر، لاشيء ناضج ، ولا شيء واضح .اليوم أنت مع أفراد « منظمة الحرية المتوكلة على لله»، والتي كانت ثائرة تريد قلب النظام وتحرير الصحراء من الإسبان، وغدا تصير أنت نفسك واحدا من القوات المسلحة الملكية .الغموض والوهم هو هذه العلاقة التي بين فتاة بيضاء، غريبة الأطوار، وبين رجل أسود البشرة ، موزع الرسائل ، علاقة غامضة، تحدث ولا تحدث في نفس الوقت ، يلتقيان ولا يلتقيان في نفس الآن. مرة تكون بجواره مثل الحقيقة الناصعة، من لحم ودم، يلمسها خفيفا ويضحكان، يغرد لها، يقلد أصوات وتغاريد العصافير، فتفرح وتضحك، وأحيانا لا تكون معه، بينما هو يحدثها، يجري وراءها ، يراها ويمشي، ولكن الأمر لا يعدو أن يكون سرابا فقط ، امرأة أو فتاة من سراب ، من خيال ، تنبت في عقله ثم لا تلبث أن تنطفئ بسرعة ، كأنها ضوء خلب ، ومضة مرت مشتعلة ثم انطفأت.
يحدث الشيء ولا يحدث في نفس الآن. هوهنا، وهو هناك. هو هذا ، وهو ذاك . لاشيء يستقر لتضع عليه يدك وتطمئن لوجوده تماما. كل الأشياء كحبات الرمل تحملها ، وحين تفتح كف يدك ، تجدها قد تسربت من بين الأصابع . تجد الفراغ ، الفراغ الهائل والمهول . لاشيء ، بعدما كنت اعتقدت بأن في يدك شيئا.
تضبط الرواية، أحداثها والوقائع بتواريخ محددة، فنحن ننتقل بين حقب زمنية مختلفة، من زمان الرقاص الحرطاني موزع الرسائل بين مدن الجنوب إلى زمن الترام ، وسطيحة المقهى في الدارالبيضاء في إحدى الساحات المفتوحة على الناس . فحين تتحدث الرواية عن التاريخ القديم للبلد ، فإنها تكون تواريخ متحركة ، تنتقل من يوم إلى آخر ، ومن شهر إلى آخر. منذ شهر أبريل إلى شهر يوليوز ، وهي شهور يحل فيها فصل الصيف، الفصل الحار والحارق ، بينما حين تنتقل إلى تاريخ البلد الحديث فإننا نجد أنه يوم واحد، يوم لا يتغير، يوم 12 نونبر 2012 يوم أعطيت فيه انطلاقة الترام كشكل من أشكال الحضارة والدخول في العصر الحديث ، وهو بمثابة انتقال من طور الرقاص الذي يجوب الفيافي ويقطع الخلاء ، إلى زمن الترام الذي يسير بين المباني الشاهقة والساحات الفسيحة ، بينما في نفس الآن يركبه ناس لم يقرؤوا حتى دستور بلادهم ليفهموه وليعرفوا مضمونه ، ثم وفي نفس الوقت الذي يمر فيه الترام يقطع المسافات ، كانت هناك حناجر عمال ترتفع مطالبة بأبسط الحقوق للعيش ، وهناك أيضا من يرتدي الأبيض كأكفان ويصطف طول الشارع في سلاسل بشرية تريد الموت هروبا من القهر ومن البؤس الاجتماعي، فنجد أنفسنا أمام لوحتين ، أو بين صورتين: الحداثة والجوع والانسحاق .بين الصيف الحار والحارق وبين فصل الشتاء البارد. بين تاريخ متحرك تتبدل أيامه، وبين تاريخ جامد ومقعد.
نبقى أيضا بين صورة الطريدة المبحوث عنها (نافع موزع الرسائل) من طرف المخبرين ادريس الأول وادريس الثاني، وبين مشهد التقاء الطريدة نفسها مع من كانا يطاردانها في مكان آخر وزمان آخر . في آخر زمانهم جميعا ، في آخر أيام العمر، بعد أن أنهكتهم الحياة والعيش الذليل والفقير. التقوا وتشاركوا في الحديث ، ووضع الواحد منهم يده في يد الآخر. الآن استنفدوا عمرهم وجهدهم ، وهاهم الأن قد انتهوا، وصاروا من الذكرى ، من الماضي ، رغم أن ذاكرة ادريس الأول قد أسعفته هذه المرة في التعرف على «نافع» من خلال استرجاع لحظة شقلبته فوق الطاولة في فندق الحظ السعيد وهو هارب يتخفى في أوضاع وبأشكال شتى في أماكن مختلفة.
ها قد تذكره ادريس الأول وتعرف عليه، ثم ماذا بعد؟
إن قطار الزمن قد فات ومضى وصار في الغياب، لا نفع الآن يرتجى من التذكر أو النسيان، من التعرف عليه أو البقاء في المجهول والغموض. لقد انتهى كل شيء إلى ما انتهى إليه، إلى الوهن، إلى الضعف، إلى اختلاط الأشياء ، إلى الإستنجاد بحبات الدواء للبقاء في الحياة ونشر الكلام اللامجدي والنظر إلى الترام وهو يمر أو الركوب فيه، في اليوم الأول من التجريب وبالمجان….