لا يستغرب قارئ المتن الإثنولوجي المنجز حول المغرب من حضور روبير مونتاني ضمن ربيرتوار المنجز الفرنسي. ليس مصادفة أن يضع المؤرخ عبد الله العروي روبير مونتاني R Montagne ضمن لائحة أبرز أعلام الإثنولوجيا الكولونيالية. يتعلق الأمر، بمقتضى رجع الصدى الذي تثيره المراجعات العلمية النقدية بأحد أعمدة السياسة الاستعمارية الفرنسية في قسمها العلمي، وأحد الفاعلين الأساسيين الذي فرض حضورا قويا لدى المهتمين بالدرس الإثنولوجي الفرنسي. والواقع، لا يتأتى فهم صدى هذه الفكرة من خلفية الانتماء الوطني؛ بل من قيمة الثراء المعرفي والمنهجي الذي ساهمت فيه «الأطروحة المونتانية» إن جاز التوصيف في منطوق التداول السوسيولوجي المعاصر.
لا يمكن أن نتجاهل في السياق ذاته قيمة الأصوات التي حاولت أن تنتقص من العطاء الذي صاغه روبير مونتاني حول المغرب. تستدل هذه الأصوات بانتماء مونتاني إلى سلك الاستخبارات الفرنسية، وعمله مستشارا للجنرال ليوطي في التحضير لما عُرف ب»المسألة القبلية».
صحيح أن أطروحة المخزن والبربر الشهيرة تمَّت تحت غطاء سياسي واضح لا تخفى رهاناته، لكن ذلك لا ينزع عن صاحبها صفة الأكاديمي الذي يزاوج بين الوظيفة الإدارية والمنهج العلمي.
كل المؤاخذات التي تناولت هذه الأطروحة ركزت على مسألتين أساسيتين:
المسألة الأولى تتعلق بالانفصال بين المخزن والقبيلة والبحث الدائم لتحقيق الاستقلالية وتأسيس الديموقراطية المحلية. والمسألة الثانية تتعلق بظاهرة السيبة في تاريخ المغرب التي تُقوض فكرة الدولة المركزية.
نعلم أن مونتاني ارتقى بالسيبة من ظاهرة قد تكون محددة في الزمن والمجال، إلى اعتبارها ثابتا من ثوابت النظام السياسي في مغرب ما قبل الاستعمار.
وفقا لذلك، قدمت الأطروحة الاستعمارية المخزن في هيئة النظام السياسي القاسي الذي يُمعن في الإذلال والإخضاع استجابة لحاجياته، وقلصت من نفوذه خارج دائرة بلاد المخزن، فحوالي أربعة أخماس هي بلاد سيبة، والخمس المتبقي هي بلاد المخزن. من يُدقق النظر في أطروحة روبير مونتاني، يقتنع بأن المخزن هيكل جامد لا دماء تجري في أنسجته؟
حول هذا الاستنتاج، تكاثفت القراءات النقدية الرافضة لعناصر التحليل التي قدمها روبير مونتاني، خاصة إذا استحضرنا أننا أمام نموذج استقرائي ينطلق من قبائل في جنوب المغرب، ويبتغي التعميم على كافة وحدات المجال المغربي. ثم لماذا التركيز على ظاهرة السيبة؟
الجواب يسير مع توجه الإدارة الفرنسية التي تحاول أن تنتصر لفكرة أن توحيد المجال تمَّ بصناعة وهندسة فرنسية.
مع مونتاني يمكن أن نستعيد الأسئلة الكلاسيكية التي طرحتها القراءات النقدية، كيف مارس المخزن حضوره الرمزي والمادي في البلاد؟ كيف كان يُدبر علاقته بباقي الفاعلين؟ كيف ضمن استمراريته التاريخية في ظل نظام اقتصادي معاشي يكتفي بتدبير الندرة؟
في البداية، تتمحور الأطروحة المونتانية حول مفهوم مهيكل، مفهوم المخزن. لا شك أن جل الباحثين يقفون على التباسات المفهوم. نحن إزاء مفهوم يحمل دلالة تركيبية لا يمكن القبض عليه في الواقع التاريخي، قد يقصد به شخص السلطان، وقد يقصد به جهاز الإدارة، وقد يعني السلطة في المتخيل الجماعي…لتبديد جزء من هذا الالتباس لا بد من إقامة فصل منهجي بين الممارسة المخزنية كسلوك مادي يعنى بتدبير الأمن والجباية، والسلوك المخزني كنتاج رمزي ينتجه أعيان وقواد وشيوخ المخزن في المناطق البعيدة.
على المستوى المادي، يحضر المخزن عن طريق ما يسمى ب «الحَرْكة». يمكن اعتبار الحرْكة لحظة سياسية تأديبية توجه صوب القبائل من أجل انتزاع الضرائب واستخلاص الاعتراف، أو لنقل حرب استنزاف معلنة من السلطان على القبائل رغم قساوة هذا الحكم.
الحَرْكة بالتدقيق هي جوهر الحضور المادي للمخزن. ينصرف القصد نحو إدارة متنقلة تشرف على شؤون البلاد بمقتضى ما توصل إليه الباحث محمد جادور. وحينما تبتعد الحرْكة عن المجال، يتدخل المخزن لتعيين إدارة تنوب عنه وفق نسق يحترم التقاليد المرعية والوجاهة الرمزية والاجتماعية وعامل المصاهرة…يشبه الأمر، علاقة الحضور بالفعل، والغياب بالإكراه. ويمكن أن نصنفها إلى نوعين وفق ما يدقق في ذلك الباحث محمد جادور نفسه، الأولى عبارة عن رد فعل ضد قبائل التمرد والسعي إلى تركيعها وفق مسار يطلق عليه بـ «تأطير القبائل»، وثانية تتخذ طابعا مؤسساتيا يتسم بتوفير موارد الخزينة. لكن، جرمان عياش يضيف إلى المخزن، وظيفة التحكيم.
المخزن عند جرمان عياش نظام سياسي تعايش بشكل توافقي مع نسيج القبائل، يقسو عليها أحيانا، ويمارس التحكيم أحيانا.
عودة إلى مونتاني، عراب الإثنولوجيا الفرنسية، لقد أغنى مونتاني الخزانة السوسيولوجية المغربية بمواضيع خصبة ومتنوعة كسرت الأقانيم المقدسة عند إثنولوجيي البعثة الفرنسية، واجتهد في تقديم رؤى تركيبية حول كيفية اشتغال الأنساق الاجتماعية في المغرب وخارجه. فمن أصول سلطات القواد الكبار بالجنوب المغربي، ومن البحث في شروط ولادة البروليتاريا المغربية خلال الثلاثينات من القرن الماضي، انتقالا إلى دارسة التحولات الكبرى التي طبعت المغرب خلال الفترة الكولونيالية، ينتظم المتن الإثنولوجي الذي قدمه روبير مونتاني ضمن منجز الإثنولوجيا الفرنسية.
والحال، قيمة روبير مونتاني تأتي من كونه تناول عدة موضوعات إثنولوجية بما تختزنه الكلمة من مضمون فرنسي. لقد أسهم مونتاني في ولادة إثنولوجيا جديدة تنشغل باليومي والمعيش المغربي في لحظة فارقة من حياة المغاربة تتميز بالتحول والتفكك العام للأنساق والبنيات والذهنيات. وعليه، يعتبر شهادة تاريخية حول لحظة الثلاثينات التي عرفت اكتمال الدرس الإثنولوجي…وحلقة مفصلية في تاريخ الإثنولوجيا المغربية تحديدا. ففي كتابه «ثورة في المغرب»، يحفر عميقا في أصول تفكك البنيات الزراعية القبلية، ويتتبع بشكل دقيق شبكة الأعيان وعلاقتهم بالسلطة المركزية، ويفكك دور البنيات الدينية في ما يسميه المارشال هوبير ليوطي بـ»السياسة الإسلامية».
رغم المؤاخذات التي جوبهت بها أطروحة روبير مونتاني حول المخزن والبربر في سياقها التاريخي، المتسم بتبلور وعي وطني جديد، بدأ يأخذ زمام المبادرة من البادية نحو المدينة، ويتجه نحو تنظيم النضال السياسي، لاستعادة زمام المبادرة والفعل، فإنها من الناحية العلمية والمنهجية تبقى متماسكة في بنائها المعرفي، من حيث خلاصاتها النظرية التي تسم التحول المغربي.
حاصل القول، يندرج روبير مونتاني ضمن سياق خاص مرتبط بلحظة مأسسة البحث الإثنولوجي من خلال تأسيس معهد الدراسات الإدارية الإسلامية رفقة باحثين لامعين مثل جاك بيرك وأندري آدم.
خلال هذه اللحظة حدث نوع من الاختمار والتقعيد لأدوات ومناهج الدرس الإثنولوجي الفرنسي حول العالم الإسلامي، وذلك من خلال دراسات تهم الهجرة القروية وميلاد البروليتاريا المغربية، وأخرى حول تفكك نمط العيش القروي والبنيات الاجتماعية ذات الأساس القبلي…
أي قيمة لما يطرحه مونتاني؟
ينتصر مونتاني في تفسيره لبنيات المغرب إلى كون عامل الجفاف الذي عاشت على إيقاعه البوادي المغربية، منذ نهاية القرن التاسع عشر، ساهم في حدوث تحول اجتماعي عميق قاد نحو التفكير في الهجرة نحو المدينة. لقد شبه مونتاني هذه الحركة بتوصيف «حركة الجراد» الذي يصعد غريزيا نحو الشمال بفعل فطرته من جهة. كما ساهمت عوامل الاستبداد الذي مارسه القواد الكبار واتساع دائرة الاقتصاد المالي الذي أتت به الشركات الفرنسية، وتجريد الفلاحين من أراضيهم، وسيادة المقاولات والشركات التجارية للمدن من جهة موازية ، في حدوث هذا التحول الاجتماعي. هذا التحول العميق الذي طرأ على بنيات المغرب الحديث، لسوف يبصم – حسب إفادة عبد الله العروي – مختلف مداخل الحياة السياسية المغربية غداة الاستقلال.
يقول العروي في هذا الصدد، وجد المغرب نفسه بعد الاستقلال أمام جهاز مخزني عتيق يعج بحاشية من أعيان القصر والشخصيات الدينية رفقة جهاز عصري لا يعرف أحد من المغاربة كيفية تسييره ، باستثناء الفرنسيين بطبيعة الحال…هذه الازدواجية لا تزال تفعل فعلها في حاضر المغرب، بل وفي حاضر المجتمعات المغاربية التي اهتم بها روبير مونتاني.
روبير مونتانــــــي: الدرس الإثنولوجي الفرنسي
الكاتب : عبد الحكيم الزاوي
بتاريخ : 10/11/2023