كان لذلك الأمل، في البداية، كل أسباب التحقق. من جهة القديس طوما ومن جهة أخرى الأديب فيكتور هوغو، كخلطة إلهام مسيحية مع توقع إنساني، من العطاء السخي ومن الإحتمال. هكذا، فمن المسيرة العنيدة الصعبة صوب توحيد الأمم من خلال حكامة شاملة، تماما مثلما كان عليه الحال بخصوص الجهات بالدولة الأمة، أو من خلال ذلك اليقين التبسيطي الذي يفيد «أن الوحدة تصنع القوة» (الذي تنضاف إليه، غلالة ظل الشاعر الأروبي بول فاليري، كتوقيع تأكيدي)، فإن «أروبا الممكنة» التي كم نودي بها عاليا، لا تتطابق والإتحاد الأروبي.
فأروبا ليست إعادة ابتكار لشئ كان، أي إنها ليست وليدة الإمبراطورية الرومانية المقدسة، لكنها أروبا ألبير كامو و فكرته عن «روح الجنوب المتوسطي» (لفرنسا): متوسطية ومشمسة، بروح مسيحية، بنزوع إنسانية متأخرة، لكنها أقرب لروما من فرانكفورت. وهي أروبا، تبتدأ من مدينة الجزائر، وتعبر من الإسكندرية، وتعرج على بيروت، كي تبطئ قليلا بأثينا، ثم تصعد قليلا صوب إسطنبول، قبل أن تصعد أكثر باتجاه الشمال، وتعود نازلة إلى الحذاء الإيطالي ثم إلى شبه الجزيرة الإيبيرية. ما يجعلنا نقول، إنها تمنح للغة والهندسة وللخيال، ذات الدور الإستراتيجي الذي نمنحه نحن ل «الداون دجونز» ونسب استيراد الشركات (مؤشر الداون دجونز، هو مؤشر صناعي لأكثر من 30 شركة صناعية أمريكية ببورصة نيويورك، أحدث سنة 1896. وهو أقدم مؤشر صناعي ببورصات العالم، لا يزال قائما إلى اليوم. – م -)..
كان دوما للتاريخ العالمي، الكثير من الحيل في جرابه. ألم يؤتمن المبدأ الأمريكي لما كان يجب أن يشكل المنافس له، بالنسبة للبعض، أي: «اتحاد الولايات الأروبية». لأنه، تلكم، هي معجزة الهيمنة، أن تقوم بملء أجندتك بالآخر. إنه ذات أمر العشق. حيث نجحت أمريكا الشابة بعد الحرب، في أن تصبح معشوقة، علما أنه الأمر ذاته، الذي لم تفلح فيه غريمتها: الإتحاد السوفياتي (لو وقع العكس لكان الأمر مفاجئا). ومن يحب يقلد (المحبوب).
بالتالي، ليس مستغربا أن تسعى أروبا الفدرالية المستقبلية، إلى أن بناء ذاتها، من خلال توسيع وتعميم، عقيدة وقيم القارة الجديدة تلك (أمريكا)، على القارة العجوز. علما أن حرصها الوكيد، على فك خيوط كل ميزاتها ومحو علامات شخصيتها التي تشكل بصمة حمضها النووي، لابد وأن يغري كل كاتب مسرحي. فالإتحاد الأروبي آلة مناهضة للسياسة، يحلم البعض (واهما) أن يجعل منها فاعلا سياسيا. بل ويترجى أن تشكل ذات يوم، قوة، حتى وكل روحها تتأسس على التهرب من أن تصبح قوة (عالمية).
لنلخص المؤامرة. لقد انتصر أهل الديمقراطية الإجتماعية وأهل الديمقراطية المسيحية، من حيث إنهم الممثلون البارزون على الركح، بعد الحرب، لمنع أي عودة للشعلة، إلى ترسيم المشروع المثالي الممتاز لغلبة المصلحة العامة على الخاصة. إنه الإخلاص الفدرالي ضد الخيانة الوطنية.
وليكن، لم لا؟.
لأنه بعدها، رأينا اشتراكيي الكأس المترعة، يفككون الحمايات الإجتماعية، وتفكيك الدولة، أي آخر مصلحة (والوحيدة) لمن هم في حاجة إليها أصلا. من خلال تفكيك الخدمات العمومية، وإعلاء القانون الأسمى للربح، في الآن نفسه الذي يضع سادة المشروع الروحيون، إطارا بلا روح ولا هوية. هو أكبر تجميع بشري للربح المادي، حيث مجموعات الضغط سيدة، واللاجئ عدو، وآلة الحساب ملكة. إن الإتحاد الأروبي لم يخرج من التاريخ، لأنه أصلا لم يدخل إليه.
إننا لم نشاهد قط، في أي جغرافية، تقدم جيش يمشي تحت الراية (الزرقاء) المزينة بالنجمات المستخرجة من نص القيامة. مثلما لم يتقدم أحد باعتراضه على أي شئ، ولا دعى إلى مؤتمر للسلام، ولا أشعل أو أوقف حربا. إن ذلك ليس من طبيعة أهل الدار (البيت الاروبي). لقد ولدت المشاريع الأوربية الكبرى الناجحة، من خلال اتفاقيات بين الحكومات، ومن خلال تعاون كلاسيكي منتج بين دول ذات سيادة، مثل شركة الطيران إيرباص، ومحطة إطلاق الأقمار الإصطناعية «أريان»، التي أنجزت، عنوانا على حرفية مؤسساتية، بغاية تحقيق امتياز العولمة لرأسمال تمويلي غريب عن النموذج الريناني (نسبة إلى الفكرة الإقتصادية التأسيسية للوحدة الأروبية، الممتدة بين هولندة وبلجيكا واللوكسمبورغ وألمانيا للصلب والحديد) وأيضا عن الكولبيرية (نسبة إلى النظام المالي للوزير الفرنسي جون باتيست كولبير، زمن الملك لويس 14، في نهاية القرن 17). دون إغفال، ما طرح سنة 1987، من خلال البرنامج الممتاز للتبادل الجامعي «إراسموس»، الذي تشارك فيه 33 دولة، ويحوز فقط 1.3 % من الميزانية الجماعية، ويضمن 3 آلاف منحة سنوية، خاصة لمدارس الإقتصاد والهندسة. بينما في القرون الوسطى، كان الأمر أفضل من حيث التنقل، بمجهود أقل، جدير بالتقدير.
تشكل العبادة الأروبية، أول ديانة علمانية، لم تفلح في أن تهب لأتباعها بطاقة هوية، ما عدا إذا اعتبرت ورقة المونوبولي تعويضا عن ذلك. ومن أجل مواساتهم عن خطاب موحد مستحيل، منحهم البنك عملة موحدة، بخلفية حاضرة لدفع الحدود أبعد. أي استبدال «الواسع» ب «الكثيف»، و»البعيد دوما» ب «الممكن».. «اذهب شرقا يا فتى»، تلكم هي المقولة السائدة في قارة (ميزتها) أن بها أقل تعدد، ضمن أكبر فضاء جغرافي. وليس في قارتنا الأروبية، حيث نملك أكبر نسبة للتعدد في مساحة جغرافية ضيقة.
إن تدمير معنى للإنتماء (الأروبي)، دون العمل على خلق معنى آخر بديلا عنه، هو دوما كارثي. والخطر قائم في التراجع الفئوي والقبلي، الذي هو ترياق كاذب وسم زعاف. إن الديانات السياسية (والأروبية واحدة منها. وهي باهثة ورخوة مائلة)، تصاب بالإجتفاف بسرعة، بسبب عدم وجود سلطة صارمة، وبالأخص عدم وجود قائد معلم ملهم. إن «وهم أوربا» قد تلاشى بسرعة، بسبب افتراضه أن نصا دستوريا بإمكانه وضع المرساة، الصلبة، للسفينة، دون حاجة إلى لغة وذاكرة ولا أسطورة مشتركة. إن وطنية جافة، بدون عمق، مسنودة فقط على نص دستوري، تترك المجال مفتوحا فقط لروح منطق التجارة، من حيث أنها تعرض، وتتغاضى، عن ما يمنحها معنى راسخا، لا يحيد ولا يذبل:
«رأسمال الأرواح».
ما الأروبي في أروبا؟
ما الأروبي في أروبانا، المغطاة برداء أزرق من «أسواق السوبر ماركت»، الذي عوض الغطاء الأبيض للكنيسة، الذي جاءت متاحف على شكل معاقل، هنا وهناك، لتملأ بتثاؤب دورها الثقافي؟.
كانت هناك أروبا أكثر، زمن الأديرة، حين كان الإيرلندي «كولومبان” (راهب إيرلندي نجح في تنصير الفرنسيين والألمان والإيطاليين – م – )، ينثر أديرته في الجهات الأربع للقارة. أكثر من ذلك، فخلال حرب “ليبانت”، توحد أهل السافوا وجينوة وروما والبندقية والإسبان، لمواجهة العثمانيين، تحت راية دون خوان النمسا (هي حرب بحرية وقعت يوم 7 أكتوبر 1571، عند شواطئ ميناء ليبانت اليوناني، الذي كان تحت الحكم العثماني. وسجلت أول هزيمة بحرية للأسطول العثماني المشكل من 184 سفينة حربية، أمام اتحاد عسكري بحري مسيحي أروبي، أطرته البابوية على عهد البابا بيوس، وكان يضم أسطولها 295 سفينة حربية حملت 30 ألف جندي. – م – ).
أكثر من ذلك، نجدها (أروبا) في زمن السلم لعصر الأنوار، حين كان فولتير يأتي مطمئنا للعب الورق مع فريديريك الثاني (الألماني)، أو يربث ديدرو على كتف كاثرين الثانية بسان بيترسبورغ. وأيضا، حين كانت كلارا زينتكين (زعيمة التيار الإشتراكي النسائي بألمانيا – م – )، زمن “مسافروا الإمبراطورية”، تلهب أفئدة العمال («مسافروا الإمبراطورية”، هي الرواية الثالثة من سلسلة “العالم الحقيقي” للشاعر الفرنسي الشهير لوي آراغون – م – )، وكان جون جوريس (الزعيم اليساري الفرنسي المغتال سنة 1914) يلهب مؤتمرات الإشتراكيين الألمان. وأيضا، حين كانت اللغتان الروسية والألمانية تدرسان خمس مرات أكثر بثانوياتنا سنة 1950، مقارنة مع اليوم. كان هناك فائض إيطالي بفرنسا، وفائض فرنسي بإيطاليا، أكثر من اليوم. فأصبحنا نتتبع، الآن، يوما بيوم، مغامرات السياسة الداخلية الأمريكية، وأصبحت نزلة برد تصيب هيلاري كلينتون تتصدر نشرات أخبارنا المتلفزة، دون أن نخصص ولو 10 ثوان يتيمة لتغيير يحدث في رومانيا والتشيك. بينما قنوات الترويج الثقافية تضع نيويورك في مقدمة سلتنا الفكرية، في مقابل تركها فارصوفيا منسية في السهوب، وموسكو في “كامتشاتكا” (جزيرة صغيرة بمضيق برينغ بين آسيا والقارة الأمريكية – م – ).
أما السيد دونالد توسك، بصفته رئيس المجلس الأروبي، فإنه حين يخاطب العالم بلسان إنجليزي بسيط، فإنه يظهر أضعف أروبيا من الإمبراطور كارلوس الخامس (الشهير بشارلوكان، إمبراطور إسبانيا والعالم المسيحي – م – )، الذي كان يخاطب الله بالإسبانية، والنساء بالإيطالية، والرجال بالفرنسية، ويخاطب حصانه بالألمانية. ومن بين وكالات الإتحاد الأروبي الثلاثين، 21 منها تقدم مواقعها باللغة الإنجليزية، بينما قانون الشغل في إيطاليا يسمى “جوب آكت” (بالإنجليزية). بينما موظفوا الإتحاد ببروكسيل، لا يتواصلون سوى بالإنجليزية، التي أصبحت بعد البريكسيت مجرد لسان عضو من الإتحاد، هي إيرلندة، التي لا ينقصها الهزل. إن على من يسعون أن يجعلوا من هذه “القرطاج المزركشة” سويسرا ممتدة، أن يلتزموا فقط بمثالها هي التي يتحدث فيها ثلاث أو أربع لغات حية.
لا أحد بمستطاعه، التكهن، في بداية هذه الأوديسا الضائعة، جازما، أن أروبا الوسطى والشرقية، ستصبح بمجرد تحريرها، أمريكا صغيرة في الشرق، التي عوضت فيها محلات الجنس ومحلات السندويتش، المكتبات والخان، وحيث ستبث وزارة الدفاع الأمريكية مستشاريها، ووكالة المخابرات “السي آي إي” سجونها السرية. ولا أن التدافع بين اللاتينية والجرمانية سيحل، مع توسيع الإتحاد إلى 27 دولة، لما فيه ربح لصالح ألمانيا (روح الإسترداد تفرض ذلك)، التي أصبحت الأكثر أمريكية ضمن المجتمعات الأروبية، حيث غلبة الإقتصاد، والتمدن، والتنظيم الفدرالي، وحكومة القضاة.. إلخ.
إذا كان صحيحا أن قصة كل طير تنتهي بمخلب قط، فإنه لم يتم تنبيهنا، إلى أن مقاومة دفاعية بطلة، ضد استبداد سياسي، ستتحول 30 سنة بعد ذلك، إلى نوع من الإستبداد الإقتصادي (ممكن تحمله صحيح). فالأمر، كما لو أن «لا» ضد ستالين، تستوجب «نعم» لميلتون فريدمان (ميلتون فريدمان، مفكر اقتصادي أمريكي، يعتبر أكبر مناصري اقتصاد السوق وتقليص دور الدولة إلى أقصى حد. حاز جائزة نوبل للإقتصاد سنة 1976- م -).
يلح، مؤخرا، الخبير الإستراتيجي طوماس بارنت، الذي درس بمعهد البحرية الحربية، قبل الإلتحاق بوزارة الدفاع الأمريكية، يلح على واشنطن، أن لا تيأس بسبب حرب خسرتها بالعراق، بل عليها مواصلة طرح سر قوة شجرة أنسابها، على العالمين، المتمثلة في «توليفة العولمة الحديثة»، أي نموذجها الإقتصادي، الذي له مكرمة «تأثير الدومينو»، من طبقة متوسطة إلى أخرى. فالأمر (كما يلح على تأكيد ذلك)، لم «يعد متعلقا بقيادة أمريكا للعالم، بل أن يصبح العالم أمريكا».
في ما يخص العالم القديم، على استراتيجيتنا الإطمئنان، فقد بلغ نهايته ومداه.
(*) هامش:
هذه المقالة العميقة للمفكر الفرنسي ريجيس دوبري، التي أعادت نشرها الجريدة الفرنسية الشهرية الرصينة «لوموند ديبلوماتيك» (عدد غشت 2017)، هي في الأصل جزء من فصل، من كتابه القيم، الصادر، عن دار «غاليمار»، منذ شهرين بباريس، تحت عنوان «صناع الحضارة، كيف أصبحنا أمريكيين».