1
شكل استخدام الرمز والأسطورة منعطفا أساسيا في القصيدة العربية المعاصرة، منذ تجليه وتبلوره على يد روادها ومجدديها في مطالع الخمسينات من القرن العشرين. كما عُدّ، بحق، في طليعة مكاسبها وإنجازاتها، بل وفي طليعة خصائصها العضوية وطرائقها التعبيرية الفائقة الغنى، ومن أهم روافد تشكيلها الشعري المتعددة المتشابكة.
لاشك أن جُنوح بعض الشعراء الرواد المُجيدين إلى البحث الدائب عن أساليب وأدوات ووسائل تعبيرية قادرة على استيعاب رؤاهم المعاصرة بما لها من شمول وتنوع وتعقد؛ ونتيجة لانفتاحهم على عطاء ومنجزات الشعر الغربي الحديث، وتأثرهم العميق وتمثلهم الناضج لأهم تجاربه، قد أسهم في تنبيههم- من بين ما تنبهوا إليه- إلى قيمة ووظيفة الرمز والأسطورة، لِمَا ينطوي عليه كل منهما من إمكانيات وقدرات تعبيرية هائلة تُسعف الشاعر منهم، حين يلوذ بهما، على التعبير عن مشاعره وأحاسيسه وقيمه ومُثله وهواجسه وتطلعاته، ومنحه، في نفس الآن، من العناصر والمعطيات المتعددة قصد إخصاب تجربته الشعرية وإكسابها حيوية وعمقاً وثراء، والدفع بها إلى مساحات رحبة كثيفة بالدرامية مكتظة بالدلالات.
لقد اجترأ الشاعر العربي المعاصر على الرموز والأساطير مُدعماً بها تعبيره الشعري، موظفا إياها وفق عدة مستويات وطرائق بما يجعلها تحمل روحا جديدة ورؤية معاصرة، وتصبح جزءاً من تجربته، ومن بنية متونه الشعرية وقيمها الفنية والفكرية.
لقد كان لشعرائنا المعاصرين، بالنظر إلى تجاربهم الشعرية وتنظيراتهم، الكثير من الآراء بشأن استخدام الوسيلتين المشار إليهما سابقا، بحيث اتخذوا –انطلاقا من تطور وعي وتجربة كل واحد منهم- مواقف شتى من توظيف كل من الأسطورة، ومن الرمز على اختلاف مصادره، ومن فهم لطبيعة ووظيفة كل منهما، ومن تبني رموز وأساطير بعينها.
كما عمدوا، على مستوى الإفادة من الرموز والأساطير، إلى استغلال عدة طرق وأنماط تجلت في أعمالهم الشعرية، وتراوحت بين توظيف قلق مشوب ببعض القصور، وآخر متسم بالنضج الفني العميق.
إن نجاح بعض شعرائنا المعاصرين في الاستفادة من المزايا الخصبة للأساطير والرموز بعناصرهما المختلفة، استلزم منهم درجة متقدمة من الوعي الفكري والمعرفة العميقة بالقيم الفنية التي أرساها الشعر والنقد في الآداب الأجنبية في هذا المجال وسواه، كما اقتضى منهم، في نفس الآن، السعي الحثيث لإغناء تجاربهم الشعرية وتطويرها عن طريق امتلاكهم لثقافة واسعة، وتجريبهم المضني المتواصل.
2
نستطيع أن نقرر، بداءة، أن الشاعر بدر شاكر السياب يعد مرحلة متقدمة في الشعر العربي المعاصر على طريق استخدام الأسطورة. لقد كان أسرع شعراء جيله اهتداء إليها وافتتانا بعالمها السحري واحتفاء بمنحاها التعبيري إلى حد الشغف، مما جعله، بتأثير من ظروف نفسية وشروط موضوعية ومعطيات ثقافية، يندفع بجرأة إلى التأكيد على حاجة الشاعر المعاصر إلى العودة إلى الأسطورة بعناصرها البالغة التنوع، قصد استلهامها وتوظيفها رمزا وبنية ورؤيا، لإثراء التجربة الشعرية وإيصالها إلى أرفع مستويات التعبير.
إن عودة شاعرنا إلى هذه الأساطير، بأصولها المتعددة، للإفادة منها بشكل يجسد من خلاله قضايا وهموم العصر ومشكلات الوجود الإنساني، هو تأكيد واضح على استيعابه للعمق الثقافي والإنساني في التراث الإنساني، وما مزاوجته بين ما هو خالد وبين واقع حياة يعاني ما فيها من قلق ومآسي وأزمات، سوى إقرار بأهمية وثراء ينابيع هذا التراث، وإلغاء للحدود بين ثقافات البشر، والعبور من الخاص والمحلي إلى البعد الإنساني الأشمل. من هنا اتسمت نظرة شاعرنا الكبير بالانفتاح والشمولية، أكسبت شعره أبعادا إنسانية خالصة.
لقد جاءت الكثير من متونه الشعرية المتميزة محملة بجوهرها اللا زماني الفياض، متحررة من قيود المكان والزمان، معبرة، بنضج فني خلاق، عن وعي الشاعر العميق بمأساة الإنسان ومعاناته، وإرادته وصراعه، ويأسه وتفاؤله. فحقق لهذه المتون، العابرة للأمكنة والعصور، ما توافر للأعمال الإبداعية العظيمة من قيم فنية رفيعة ورؤى إنسانية عميقة.
3
«وكلّم قايينُ هابيلَ أخاه— وحدثَ إذ كانا في الحقل أنَّ قايين قام على هابيلَ أخيه وقَتَلَه— فقال الربُّ لقَايين أين هابيلُ أخوك. — فقال لا أعلمُ— أحارسٌ أنا لأخي— فقال ماذا فعلتَ— صوتُ دمِ أخيكَ صارخٌ إليَّ من الأرض— فالآن ملعونٌ أنتَ من الأرض التي فَتحتْ فَاهَا لتقبل دَمَ أخيك من يدك « سفر التكوين- الإصحاح الرابع )العهد القديم(.
***
تستطيع قصيدة «سربروس في بابل»(1) ذات التكوين الموضوعي المتأني الناضج، والجوهر اللازماني الخلاق، أن تنفلت من زمنيتها السالفة وتستجيب للراهن العربي بمظاهره المأساوية. فهي لم تفقد أهميتها وسرها ما دامت نفس الأوضاع الشاذة التي عبرت عنها، لم تغب ولم ينقرض أبطالها، والوحش القديم/الجديد، بتعدد أقنعته، مازال يُسبّبُ المعاناة والظلم والعسف والموت بأشكاله.
لقد كتب السياب هذه القصيدة في نهاية الخمسينات من القرن الماضي، تحت تـأثير أحداث دموية داخلية سادت بعض المدن العراقية، تسببت فيها قوى الطغيان المسيطرة /رمز لأي طغيان عربي، والتي قاومها الشاعر وأدانها وقتذاك من العديد من قصائده . وقد روّعته تلك المجازر، وما خلفته من تدمير وتقتيل وعنف، يمكن ملامسة بعضه من خلال ما حفلت به القصيدة من صور ومشاهد وأهوال فجائعية، ساهمت تلك المزاوجة الحاذقة بين الرموز الأسطورية، التي أفاد منها الشاعر، وتلك الأحداث في تجلّيها، مما أضفى على القصيدة إيقاعاً مأساويا مرعبا.
لقد حرصت القصيدة، كذلك، على تقديم نفسها بما تتمتع به من بناء متماسك متكامل، استطاع احتواء حركة القصيدة واستيعاب نموها عبر تنظيم محكم لوحداتها الدلالية، فرضه سياقها واقتضاه موقف الشاعر الذي تخَفَّى وراء الرصد الدقيق لجزئيات الجو الأسطوري الذي سربل القصيدة من بدايتها إلى نهايتها.
كان جهد الشاعر باديا، بحيث لا نلمس أثرا فيها للاستطالات والتفاصيل والنتوءات الفنية أو الفجوات. وهذه إحدى فضائل ومزايا نصوص مرحلته التموزية التي امتازت بخبرتها ومهاراتها الفنية الشديدة الإتقان والاكتمال.
كما أفصحت القصيدة، من خلال وحداتها الدلالية، عن قيامها على محورين أساسيين متناقضين متصارعين: محور العنف والرعب والكوارث والدمار الذي ينشره »سربروس « . ومحور حلم الشاعر بالخلاص والانبعاث وتجدد الحياة والمستقبل الزاهر، والذي تمثله «عشتار» ربة الطاقات الخصيبة في العالم، وخليلة تموز الإله.
ففي المحور الأول يتخذ الشاعر من»سربروس» الذي هو «في الأساطير الإغريقية حارس العالم السفلي ؛ وهو كلب له ثلاثة رؤوس )أو خمسون( فاغرة الأفواه على الدوام، تنفث سماً زعافا من أحشائه، وينتهي جسمه بذيل تنين، أما شعر رأسه وظهره فثعابين تسعى وتتلوى. وفي قصيدة السياب يعوي سربروس )كيربيروس(- حارس العالم السفلي الإغريقي-في مدينة بابل الأشورية، ويعيث فيها فساداً. إنه الموت الذي يقضي على الحياة الخصبة في المدينة (2) «.
أقول يتخذ منه رمزا للحاكم الظالم الطاغي، الذي يملأ شوارع بابل-العراق الحزينة المهدمة عواءً، ويملأ فضاءها زمزمة، ويقتل أطفالها ويقضم عظام أبنائها ويشرب دم القلوب :
ليعو سَرْبروس في الدروبْ
في بابل الحزينة المهدّمهْ
ويملأ الفضاء زمزمه،
يُمَزّق الصغار بالنيوب، يقضِم العظامْ
ويشربُ القلوبْ.
ثم ينتقل الشاعر إلى وصف هذا الكلب وصفاً يثير الفزع :
عيناه نَيْزَكان في الظلامْ
وشدقُه الرهيب موجتان من مُدى
تُخبّئ الرّدى.
أشداقه الرهيبة الثلاثةُ احتراقْ
يؤجُّ في العراقْ.
ولا يكتفي هذا الكلب بهذا التصرف الحيواني من تمزيقه للصغار وحرقه للعراق، بل راح ينبش قبر تموز، إله الخصب والنماء والبعث، بحثا عن جسده لتمزيقه وتشويهه، كما سعى لافتراس أحلام أهل المدينة بالسعادة والخصب :
ليعو سَربروس في الدروب
وينبش التراب عن إلهنا الدفين
تموزنا الطعين،
يأكله : يمص عينيه إلى القرارْ،
يقصم صلبه القويّ، يحطم الجرار
بين يديه، ينثر الورود والشقيقْ.
لقد كان السياب طيلة تجربته الشعرية والحياتية يمتلك قدراً هائلاً من الصدق، ولم يكن خارج الزمن والأحداث، فحياته لا تختلف عن شعره. وعندما يُروّعه شيء ما في حياته ويُهيمن على كيانه، كان يسعى لنقله إلى متونه الشعرية معطيا إياه أبعاداً إضافية حتى يجعله الحياة كلها. فصوره ملتقطة من الواقع وقد علقت بذاكرته ووجدانه ومزاجه الشعري. وفي قصيدتنا هذه، تستوقفنا قدرة السياب الفائقة على استحضار ذلك الحشد من الصور المرئية بألوانها القانية، وسيطرته على تلك الشبكة اللفظية ذات الدلالات المعنوية والنفسية، المشحونة بأصواتها العالية وقوتها الإيحائية، وذلك الجو الأسطوري الضاج بالرهبة والخوف، حيث سخر هذه العناصر بكل غناها وحيويتها لتقديم لوحات ومشاهد مجلّلة بالدمار والخراب التي يزرعها ذلك الكلب الدموي أثناء المطاردة التي يقوم بها، بشراسة، ناشراً ظلالاً طافحة بالأحزان والوحشة.
ومن تلك الألفاظ والصور: )يعوي، الحزينة، المهدمة، يمزق، النيوب، يقضم، الأشداق، الرهيب، المُدى الردى، يؤج، ينبش، الدفين، الطعين، يمص، يقصم، يحطم، دم، ينزّ، حفر، يلوّث. ليعو سربروس في الدروب- يمزق الصغار بالنيوب- يقضم العظام- يشرب القلوب- نيزكان في الظلام- شدقه الرهيب موجتان من مُدى- يقصم صلبه القوي- يمصّ عينيه إلى القرار- فوقه من القمر دم- يخبُّ في الدروب خلفها ويركضُ- يعضعض سيقانها- ينهش اليدين- يمزّق الرداء- يلوّث الوشاح بالدم- يمزج الدم الجديد بالعواء- ينهش الإلهة الحزينة…(.
في غمرة هذا الخراب العميم الذي يطبق على المدينة المعذبة وتئن تحت وطأته، وبعد أن أوهمنا الشاعر أن كل شيء سائر إلى عدم، تتكشف لنا بعض تباشير الخلاص، وهنا نلج المحور الثاني الذي قامت عليه القصيدة. فالسياب لا ييأس، وقد عودنا في شعره أن يقاتل مظاهر الجوع والعبودية والقهر والظلم، بتعويذة الأمل التي لم ينزعها عن أعماقه أبدا. من هنا لجأ إلى أطفال العراق التي تنضح تساؤلاتهم البريئة بالحيرة والشك والاستنكار جراء ما يعج به محيطهم من عطش وجفاف ودماء ودمار وصور قاتمة :
نرى العراقَ، يسألُ الصغارُ في قُراه :
» ما القمحُ ؟ ما الثمرْ ؟
ما الماء ؟ ما المهود ؟ ما الإله ؟ ما البشر ؟
فكلُّ ما نراه
دم ينزُّ أو حبالٌ، فيه، أو حُفَر.
أكانت الحياهْ
أحبَّ أن تُعاش، والصغارُ آمنين ؟
أكانت الحقول تُزْهرُ ؟
أكانت السماء تُمطِرُ ؟
أكانت النساء والرجال مؤمنينْ
بأنَّ في السماء قوة تدبّرُ،
تُحِسُّ، تسمع الشكاة، تُبصِرُ
ترقَّ، ترحم الضّعافَ، تغفر الذنوبْ ؟
أكانت القلوبْ
أرقّ، والنفوسُ بالصفاء تقطُرُ « .
بهذا النشيد الطفولي الحافل بالتساؤلات الجارحة، أكد الشاعر توفيقه في إخضاع الأسطورة القديمة للسياق المعاصر. فصورة أطفال العراق وصرختهم المؤثرة في وجه الوضع السائد في بابل/العراق ووقعه الأليم عليهم، يعيدنا إلى ما كان يتم في بابل القديمة من طقوس ومراسم مقدسة يُجلّلها الحداد ويعمها الحزن الجماعي، حيث يتوجه الأطفال إلى معبد الأم المقدسة آلهة الخصب عشتار، يرتلون المراثي، وينشدون الأدعية التي ينشدها الناس المنكوبون في كل مكان، متضرعين إليها من أجل السقيا والخصب وانتعاش الطبيعة من جديد.
إن نشيد الأطفال هذا بكلماته وأفعاله المنتقاة بعناية ورهافة والمحملة بقوة الأمل : )الصغار-القمح-الثمر-الماء-المهود-الإله-البشر-الحياة-آمنين-الحقول-تزهر-السماء-تمطر-النساء-مُؤمنين- تحس- تبصر- ترق- ترحم- الضعفاء- تغفر- القلوب- النفوس- الصفاء- تقطر…( هي عبارة عن تعاويذ، تعد من مكونات هذه الطقوس، لمحاولة إيقاظ عشتار من غفوتها وتذكيرها بألوهيتها ومسؤوليتها، فنزول عشتار في الأسطورة القديمة إلى العالم السفلي لا يعني موتها.
إن احتجاج الأطفال هنا له مذاق فريد، فهم ضعفاء وفي أمس الحاجة لمن يضحي من أجلهم، فبالتضحية وحدها تستمر الحياة وتتجدد، وهم، كذلك، رمز للبراءة والخير والطهر والكنوز الثمينة.
لقد استطاع الشاعر، باقتدار، رسم لوحة لهؤلاء الأطفال، مستفيدا مما يمكن أن تحدثه صورتهم، وما يتعرضون له من شرور ومحن، من تأثير بالغ. وهو، من خلال كل هذا، كان يُمهد فنياً لعودة عشتار واستجابتها، فالطفولة قرينة الأمل والخلاص :
وأقبلتْ إلهة الحصادْ،
رفيقةُ الزهور والمياه والطيوبْ،
عُشتارُ ربَّةُ الشمال والجنوبْ،
تسير في السهول والوهادْ
تسير في الدروب
تلقط منها لحم تموز إذا انتثرْ،
تلمه في سلّة كأنه الثمرْ.
وحين عادت عشتار، لإعادة البهاء والألق إلى الطبيعة جراء ما أصابها من جفاف ومعاناة وجور، ولتهب الأطفال البهجة والضحكات، كان سربروس «الكلب الجحيمي» لها بالمرصاد أثناء سعيها الحثيث لالتقاط ولمّ أشلاء تموز المبعثرة. حيث طاردها في الدروب مهاجماً إياها بفضاعة، وممزقاً سيقانها بأنيابه، وناهشاً يديها بوحشية، وملوثاً وشاحها بالدماء ؛ لتعيش بابل جحيماً قاسياً، في انتظار المنقذ القادر على منحها حياة جديدة وروحاً غنية شاملة.
وتنتهي القصيدة بنبرة تفاؤلية يشوبها تحد لسربروس بعويله وتقتيله وسفكه للدماء :
ليعوِ سَربروسُ في الدروبْ
لينهش الإلهة الحزينة، الإلهة المروّعهْ؛
فإن من دمائها ستُخصب الحبوبْ ؛
سينبت الإلهُ، فالشرائحُ الموزّعهْ
تجمّعتْ، تململتْ. سَيُولَدُ الضياءْ
من رَحِمٍ ينزّ بالدماء.
إن السياب المتفائل يعود إلينا بصورة الأمل المجسدة في الحبوب التي توحي بالخصب والنماء، والضياء الذي ينبثق مع كل قطرة دم زكية ، وفي هذا إصرار لا شعوري على تغيير الوضع بالتضحية والموت، ما دام أنه الطريق الوحيد لذلك. إذن، فليكن الثمن فادحاً، ولتكن الولادة عسيرة، ما دام الهدف غالياً.
_____________________________
(1) بدر شاكر السياب « ديوان أنشودة المطر- دار مجلة شعر، بيروت، لبنان 1960- ص : 168-171.
(2) مجلة «فصول» المجلد الثالث – العدد الرابع 1983- ص 42.