سردية مساءلة ثغرات الهوية في رواية« ولادة قيصرية»

لعلّ ما يحاوله الروائي الجزائري الدكتور وليد خالدي، عبر جديده المعنون: ولادة قيصرية، ليس مجر تجربة حياتية، جرى تنفيذها على فصل من فصول سودها مداد المكنون، وأسست لبناته رواسب الذاكرة، بل إنها الأغراض الأرقى من ذلك بكثير، إنها هواجس الإضافة للمشهد السردي، وفض مثل هذه السكونية التي تطبعه، منذ زمن، على كثرة تواتر الأسماء، التي ما تنفك تشاكس ضمن حدود هذا الجنس الإبداعي الساحر والمنفلت والمستحوذ والعميق.
فعتبة الرواية هنا وبما تحمل عليه من دوال لاستعجال الحياة الحقيقة النقية والخالصة من سائر أوجه الزيف والأقنعة، نجدها أيضا تومئ إلى راهن الجاهلة التي ورثتنا أجيالا من التفاهة والفراغ الروحي كما العقلي، حدا أرخى بظلاله، وأنتج نظير هذه السكرة والدوخة الوجودية التي انقرضت لها أو تكاد، هوية الكائنية العربية، بكل تأكيد.
بذلك، وبكل بساطة، فهو يضعنا إزاء منطق مساءلة ثغرات الهوياتي في وجودنا العربي الذي باتت تنتابه السلبية، ويشوب رهاناته الانتقاص:
إنها دونية مبالغ فيها، راحت تلازم هذا الكائن المنقمع أصلا، وتنغص عليه الكثير من الأمور، ما استدعى مثل هذه الصرخة الجنينية، أي أنها نعومة الصوت السردي المجترح لإيقاعات ثورة باطنية جد هادئة وخفيضة، للشجب والإدانة والاستنكار.
يقول السارد في أحد المواضع:
{ومن وقع الدهشة، بقي طوال الليل، مضغوط القلب، يحمل آلاما مبهمة، يتابع هذا الفيلم أو المسلسل، وقد عمر طويلا، ويمضي بلا نهايات، قاطعا المسافات، يصعب تحديد وجهتها، أو حتى تخيلها، كان ظلام الليل ساعتها، ما يزال سائدا، ثم ما تلبث تستغرقه التخمينات في رتابتها المقيتة، يتهادى صوتها من قاع أحشائه، وبدافع أشعره بالعجز، ارتمى بقوة على السرير مضرّجا بالعرق، فتوقف ذهنه في المحطة المعهودة، ولم يكن في مقدوره فعل أي شيء، فكان على يقين بأن رحلته هذه لن تنتهي، وهي تحتل مساحة كبيرة من روحه، تجعله يتذكر طفولته البريئة، وقد فقدت الكثير من وهجها، وبحركة غير واعية امتلأ «الأستاذ نعيم» بشعور اخفق في حل ألغازه، وفشل في تعليله، وإيجاد أسبابه، ولكن التجارب المختلفة الملتفة بصور الانعتاق، سرعان ما كانت تهمس في أذنيه، بأن حبل الشر قصير، فأيقظت أحلامه مجددا، التي أوشكت على الانسحاب والمغادرة، والرحيل والانطفاء}(1).
وهكذا يتم نسج خيوط هذه الحوارية التي يتوازى ضمن آفاقها، الخطاب الذاكراتي الذي يجسده حضور أبو زيد، بما يحاكي ربما صفحات الأمجاد والملاحم الغابرة، النابضة بها مغامرات السيرة الهلالية، وصوت المعلم نعيم، في رسم أحلام جديدة تليق بجيل تبدل بالكامل، وقد تم مسه في هويته، على النحو المخزي الذي تسممت له الذائقة والوعي، على حدّ سواء.
جيل مهزوز ومضطرب، وإن كان من حقه، أن يشق أبعاد طموحاته، في مراياه، هو فقط، بمعزل عن وصايا وتعاليم الكبار، إلا هذا لا ينفي ضرورة استدعاء الأدوار الطلائعية للمعلم الحقيقي، بغية تقويم المعوج، وتوجيه القافلة إلى القبلة الصحيحة.
يقول في موضع آخر، أيضا:
{وقبل أن تقدم على إخبار زوجها بمجيء أخيه، استغربت عودته السريعة المفاجئة، وما فتئت الاحتمالات تخطر ببالها، وهي التي قد عهدته يطيل السفر، يتجول بين مدرجات الجامعة مع مالك بن نبي، يلقي المحاضرات في بلدان العالم، فخاطبته مستفسرة عن سر قدومه باكرا:
ــ عودة مفاجئة لعلها تخفي أطنانا من الأخبار.’
ــ هذا صحيح، آثرت اتخاذ عطلة مبكرة هذه المرة.
ــ والله إنها المرة الأولى التي أجدك فيها على هذه الحال…’ أتمنى لو تدوم على هذا المنوال.
فتحاشى عبارتها الأخيرة وقال متهجما:
لقد كانت هذه الرحلة مؤلمة بالنسبة إليّ، إنها سابقة في حياتي..’’ وحقيقة مرة كالعلقم، وكان من الصعب تقبلها.
ــ أفصح.’ فأنا لم أعد أفقه شيئا.
ــ لقد طردتني الوحوش الضارية، والجوارح الكاسرة من الجامعة.
ــ ومالك بن نبي..’
ــ كذلك هو الآخر جرّ أذيال الهزيمة، لا سامح الله المماطلين.}(2).

إن الدور البطولي الذي أنيط به خالد، كشخصية شكلت الاستثناء والنموذجية بين جميع شخصيات الرواية الأخرى، التي وإن وزّعت في الفضاء السردي، حسب التباين الطبقي والثقافي، إلا أن أبرز ما راح يجمعها ويترجم جملة من القواسم المشتركة في ما بينها، هو الهوية المشروخة والمنكسرة والمتشظية.
خالد بعقليته التقدمية، وفي نضاله الطويل والمرير، يصطدم بالعديد من العقبات والاكراهات، لكنه يكابر ويعاند ويضل يقاوم، داعيا إلى ضرورة إعادة الاعتبار لصوت المعلم، من أجل إنقاذ المتبقي من ذبالة.
هنا يتبين إلى أي حد، الروائي متمكن من شخصيات، وحذق في رسم مسارات لعبها للأدوار الموغلة في الجرح الإنساني العميق الذي تتصادى له الثغرات الهوياتية، تماما، مثلما سبق وأشرنا إلى ذلك.
لأنها، أي هذه الشخصيات، في إثراء المشهد السردي بحضورها، ما بين الأدوار البطولية والثانوية والرمزية، تشهد تنوعا في الطموحات والأحلام والأهداف، ولكن تحت مظلة المصير الواحد، المشوب بالتوجسات والاضطراب والقلق والتشكيك في غالب الأحيان، كون ما يلجم مسببات تجويد هذا المصير المشترك، هو فرط المماطلات السياسية وأوبئة الأيديولوجي التي ما تنفكّ تتناسل كالفطر.
هنا، حلم السارد، من أحلام الطبقة المسحوقة، محاولة إنقاذ الوطن من معرة الجهالة وشتى أضرب الفساد الذي يتخبّط فيه، وبالنهاية لملمة هوية متشظية.
وفي سياق آخر، نطالع للسارد قوله، كذلك:
{ـ ابتسم لي الحظ أخيرا.. وضحك بأعلى صوته متهكما يا لهم من حمقى، يا لهم من أغبياء.. لا يزالون على طغيانهم يعمهون، يرددون على ألسنتهم الماضي، ونحن على تفاهتهم ننعم بما طاب واستلذ، ونذرهم على حكايات مصطفى بن بولعيد ومؤتمر الصومام، يتقلبون على الجمر ويفكرون بما يفكر به الحمار، يدور في مكانه، وهم يدورون في حلقة مفرغة.. ولست بنادم على أيام وهبتها خدمة لمصالحي الشخصية..’ وهذا حق مشروع تداولته الأيادي من قبلي، وهي سنة حميدة تركها لنا الأوائل، ولا بد أن لا نحيد عنها، وعلى العهد نبقى جنودا مجندة، نحتسي الشاي على ظهور السفهاء..› وننعم بالرخاء على جيوبهم، ونعتلي المناصب الراقية على أصواتهم الشجية، ثم هرع مهرولا على بيته يمشي مشية آكل النمل}(3).
لقد صور هذا المقطع كل شيء تقريبا، بجلاء، بخاصة الإتيان على مفردة» النمل» وما تتستر عليه من رمزية ودوال تفيد التفاني والبذل والإخلاص في العمل على نحو معجز.
إنها صورة مصغرة، لعالم عربي ممتد لطخته أيادي الساسة الحمقى، وشوهت هوية كائناته المقموعة والمطحونة والمغلوبة على أمرها، نفعيات وأنانيات الأيديولوجيات المريضة، حدا مدمّرا ومتوقفا على الانفجار، في أية لحظة ممكنة.
صورة مخزية ومذلة، حاصرها السارد، ومن ورائه الروائي، بوطنية متوهجة للشخوص، وغربلة الأحداث، وتلوين الإيقاعات وتداخل الأزمنة والأمكنة.
ختاما يمكن القول إن الرواية، سواء من خلال بعدها الرِّسالي المنتصر للعقل التقدمي، عبر تعدد الأصوات المكالبة بعودة الدور الطلائعي للمعلم، أو بنائها الفني البديع الذي دفع بصاحب هذا المنجز القيم، إلى مراعات تحولات الذائقة، عكست العلامة الفارقة في مشهدنا السردي العربي، في حدود تجريبية جريئة، من مبدع متعدد، خبر أدغال القصيدة وعوالم النقد، ففاضت حمولاته، على هذا النحو الواعي، في اتهام السياسة، وإدانة سدنتها، وتحميلهم مسؤولية ما تكابده الهوية العربية من ثغرات وشروخ تتفاقم، حد أوان وقت نقر ناقوس الخطر.

* شاعر وناقد من المغرب
هامش:

(1)مقتطف من فصل الرواية الأول، الصفحة التاسعة.
(2)مقتطف من فصل الرواية السابع عشر، الصفحة123.
(3)مقتطف من فصل الرواية 25، صفحة182/183.


الكاتب : أحمد الشيخاوي*

  

بتاريخ : 13/08/2024