سقوط مدو لعنكبوت

 

كلبنا يأكل الفضلات، يقتات على النفايات وما يلفظه المنزل من بقايا، ومع ذلك لونه ناصع وشكله جميل يثير كل كلبات الحي. يتلقى ركلات الغضب عندما يستشيط في البيت، لكنه يحافظ على هدوئه، يمارس مهامه الحراسية بكل وفاء، لا يتخاذل في أداء واجبه، لا يبحث عن أعذار واهية تريحه عناء مراقبة البيت ليل نهار. سجله الوظيفي فارغ من الشواهد الطبية و المماطلات الفارغة. مساره المهني عذري، يذكرني بموظف يتقاعس في عمله بسبب مشاكل السرير مع زوجته، صديقي الذي يغادر العمل يوم الجمعة لأداء فريضة الصلاة ويهجرها طيلة الأسبوع.
دجاجتنا العجوز تتناول الدود والحشرات وبعض الحبوب الفاسدة التي تسرقها أمي من مخزون حبوب والدي، تتحمل رائحة ديك الجيران النتنة كلما امتطاها برعونة امتطاء ديكتاتور لكرسي الحكم، لتبيض بيضا غنيا بالبروتين. لم يسبق لي أن سمعتها تنق رثاءً لحالها. مثال يجب أن ينقش في ذهن الأستاذة التي تركتنا في منتصف السنة تائهين، بحجة الذهاب إلى العمرة، ضيوفا غير مرحب بهم في حجرات درس أساتذة آخرين، لو كانت دجاجة لكنتُ الآن كاتبا باللغة الفرنسية، أتنقل بين المهرجانات الفرنكوفونية، أعشق وطني بجنسية مزدوجة، عوض الاحتراق بين «كان» وأخواتها بدون أية ذرة وطنية.
حمارنا الأشهب يتناول الأعشاب الضارة، الشوك، الصبار، بقايا الخضر والفواكه، يشرب مياه الواد الحار، ومع ذلك جسمه سليم، يتحمل مشقة تفوق مشقة سيزيف، يساعد الكلب في مهام الحراسة، يحفظ الطرقات من أول وهلة أفضل من مهندسي الدولة المرتشين، ولديه استعداد دائم أن يتحمل وزر أخطاء البشر.
قطتنا الشقراء تتناول الفئران والجرذان والسمك الكريه، ومع ذلك فروها ناعم، بالرغم من أنها لم تزر مصففة شعر أو خبير تجميل، ولم تدفع واجب الاشتراك في مجلة نسوية للموضة، تحافظ على لمعان وجهها بلعقه بعيدا عن الكريمات الباهظة الثمن. تمنع الحشرات والثعابين من ولوج المنزل، وتزيل التوتر والشحنات السلبية عن أهل البيت بشعرها، أفضل من طبيب نفسي توقفت معرفته الطبية في مضاجعة الزبونات. لو كان قطة لما اختار استعمال مريضاته لمداواة كبته الجنسي.
شجرة التين التي زرعها جدي خلف المنزل، ظلت شامخة طيلة السنين تحكي للعصافير عن حقبة «النية»، تطعم الحي كله بتين يشبه فاكهة الخطيئة. رغم أنني حاولت مرارا قتلها بوضع مسامير صدئة في جذعها، إلا أن حب جدي، والخوف من مخالفة وصاياه، حتى وهو ميت، جعلها تصمد أكثر من صمود أرمل(ة) بعد موت زوجته (ها).
بقرتنا السوداء تقتات على الحشائش، رغم جسدها الهزيل، لم تتوقف عن إمداد العائلة بالحليب كأم حنون تفكر في مصلحة أبنائها قبل مصلحتها. لو كانت رأسمالي جشع لتوقفتْ عن إنتاج الحليب مجانا، ونهجت الزيادة في الثمن لتضخم رصيدها البنكي على حساب دماء الفقراء، فشكرا لبقرتنا الحلوب وتبا للجشع.
كبشنا الصردي يمشي بين القطيع بشموخ، يحاول أن يكون مثالا في التضحية ونكران الذات بالرغم من علمه المسبق أننا سنذبحه في عيد الأضحى. لم يفكر يوما في الجلوس في ركن من الاسطبل وانتظار السكين بالدموع كالجبناء. لقد قرر مواجهة الموت بالخلود في ذهن رعاياه، أن يمارس دوره كقائد حتى آخر نقطة دم، كي يستمر القطيع قويا به أو بدونه،  يذكرني بقائد عربي…صراحة، لا يذكرني بشيء، لا أريد لأمي أن تصبح أم سجين، ومادة إعلامية تتهافت عليها المنابر الخبزية.
العنكبوت الصغير الذي يسكن غرفتي، بالرغم من أنني أحاول دائما قتله، يحرسني من الحشرات الأخرى، وينسج خيوطه حولي كي أتمتع بنوم مريح. لطالما استرقت النظر من أسفل الغطاء لأشاهده يبذل جهدا مضاعفا لطرد الناموس من الغرفة، أو يحاول لسع الوزغ. لقد اكتشفت مؤخرا أنه المسؤول عن الأغنية الجميلة التي أسمعها في أحلامي. سُمه لا يساوي شيئا أمام حقدي البشري على الكائنات الأخرى.
الصخرة الضخمة خلف المنزل التي تشبه وجه موظف متقاعد، كنت أعتقد دوما أن وجودها عبثي كوجوده، لطالما أثارت اشمئزازي، حتى اللحظة التي أصبت في مقتل بسهم أفروديت. تحولت الصخرة إلى منبر أتخده لأنظم القصائد الرديئة، أو أتقمص دور عاشق في قصة مملة. لم أسمع أنينها يوما، أو تدمرها من رائحة مؤخرتي التي تلتصق بها كالعلكة.
الكل حولي يقاوم الصعوبات ليؤدي دوره على خشبة الحياة بتفانٍ، إلا أنا، أتناول أطعمة أفضل من الكلب،لا أتحمل المشقة مثلما يتحملها الحمار، ولا رائحة نتنة كالدجاجة، لا أحمل شخصا فوقي لينسى لوعة حب مثل الصخرة، و أتقاضى أجرا عن عمل لا أقوم به، لا أنتج شيئا كالبقرة، لا أستطيع قيادة حتى غرائزي الشاذة، فقط، استنزف الوجود حتى الثمالة معتقدا أنه بتفاصيله الكبيرة والصغيرة وجد لأشبع كسلي بعته أنطولوجي، لا أتدخل إلا لأفسد اللوحة كلما نضجت، وأغير التاريخ مرضاة لنرجسيتي المرضية، فأحاول جعل الكون يتمدد على مقاس أحلامي العرجاء، وأطالب الجميع بالسجود للصنم الذي يسكنني، غير آسف. تخنقتني أمنية عجيبة كلما صحيت: لماذا لا أكون لونا من ألوان اللوحة لا مدمرها !؟ لماذا لا أكون العنكبوت مثلا…
بدأت أتسلقُ حائط غرفتي معتمدا على أرجلي الثمانية وأقدامي المجهرية وشبكتي العنكبوتية المتينة. اندمجتُ ووضعي الجديد، نسيت كل القيم والمبادئ التي كانت تجعل مني مخلوقا مدمرا. لكن، قبل القمة بفسحة تفكير، سقطت سقطة مدوية نحو القاع، كسرت اللوحة وشكلي الجديد، وعدت إنسانا مرة أخرى بلا فائدة…


الكاتب : عبد الجليل ولد حموية 

  

بتاريخ : 31/08/2018