سمفونية الجسد

 

استهلال:

«الجسد بدون أعضاء هو وعي حسي ..هو جسد بدون صورة
كاملة ..وهو دوما في الحدود القصوى للجسد»
جيل دلوز / فليكس غاتاري.

جاءتنا الفنانة العصامية آمال الفلاح من مدينة التراب خريبكة وهي من أصول شاوية أولاد أمراح جماعة منيع سيدي حجاج ، واستقرت بالبيضاء .. ومعها عدّة افتراضية أصبحت في ما بعد رصيدا فنيا تشكيليا تجسّد لنا في معارض عدة فردية وجماعية. لم تخضع للفن العصامي المسمى أحيانا بالفن الفطري وأحيانا بالفن الخام، وإنما غاصت في لجج الاتجاه التشخيصي المحترم للأبعاد والمنظورية وثنائية الظل والنور، وركزت أسلوبها الخاص على الجسد الأنثوي بالخصوص، ولكن بميزة أو مبادرة ومغامرة تدفعنا إلى هذه التساؤلات المحيّرة للألباب:
لماذا أشكالها الجسدية هي بهذا الشكل؟ وجوه ليست كالوجوه وأجساد ليست ككل الأجساد؟ لم هي غير مكتملة ؟ أهذه هي تقنية ما هو غير مكتمل في الرسم( إيناشوفي )؟وجوه لا عيون فيها ولا فم ولا أنف ولا أذنين؟ لا نظر فيها ولا نضر؟ أيبقى الوجه في هكذا حالة وجها؟ أجسام لا وجود فيها لأطراف أخرى كالصدر وما فيه والعجيزة و ما وراءها وما بين الفخدين..هل هو غياب أم تغييب؟ لم الأمر كذلك؟هل هي الحشمة و الكرامة والمروءة؟ وما علاقة الإيتيقا بالاستطيقا؟ أهو نسيان أم تهميش أم لامبالاة بهذه النواحي من الجسد الأنثوي لكثرة ما تمّ التركيز عليها منذ القدم مدحا أو قدحا ، تبجيلا أو تبخيسا؟ أيستقيم الجسد بدون أعضائه؟ هل الأعضاء المحافظ عليها في اللوحات كالرأس والضفيرة على شكل ذيل حصان واليدين والرجلين كافية لتشكيل الجسد الأنثوي؟ الأدهى من ذلك ..أهو بتر و قطع واجتثاث لدابر كل ما هو جنسي تناسلي افتتاني في جسد المرأة لإبراز الجمال في مناطق لا تعتبر لحد الآن جنسية فاتنة وفي المناطق الحافة بها ،ربما القصد هو التّمثيل لجمال آخر تجريدي لا عضوي ؟
هذه الخلية من الأسئلة الشبيهة بخلية نحل هي التي علينا مقاربتها في هذه الورقة.
لماذا هذا الشكل من الرسومات؟
إنه اختيار فنّي تشكيلي لموضوعة الجسد، مع الاستمرار فيه وسبق الإصرار سيتحول إلى أسلوب فني مميّز. كما هو أسلوب الفنان فرانسيس بيكون مثلا (إيرلندي). يتحول الجسد في هذا النوع من الأسلوب إلى جسد بدون أعضاء( ج د ع )كما سمّياه جيل دولوز و فليكس غاتاري ويقصدان به ذلك الوعي الحسّي الجسدي مقابل الوعي العقلاني الديكارتي (الكوجيطو).إنه جسد يحس بدون أعضاء، جسد يخلخل الجهاز الجسدي ويتحول على مستوى الوجه إلى رأس دون ملامح ويصبح وعيا جسديا أي جسد بدون صورة يوجد في الحدود القصوى للجسد. يسميه ابن سينا ب»الإنية» ويقصد بها جوهر الذات دون عقل ولا حس إنها جسد معلق في الهواء ومع ذلك يدرك إنيته بإنيته.
..جسد لا نشعر به إلا في حالات النيرفانا أو الانتشاء الأقصى حين نفقد الوعي العقلي بالأعضاء، ونتحول إلى ما يشبه البيضة لا في تكورها فقط بل في كونها عضوية دون أعضاء ..كذلك حين يتلاحم كل لحمنا في كتلة واحدة تحت تأثير هذا المخدر أو هذه الحالة من حالات الوصل أو الإشراق أو الوجد، آنذاك يصير الجسد وعيا حسيا كما جرّبه الشاعر أ .أرطو و جرّبه ويليام بوروغ في «الحفل الحافي» بطنجة ويجرّبه المتصوفة باستمرار.
وجوه ليست كالوجوه لأن ملمحها يقرّبها أكثر إلى الأوطومات، تلك الربوهات التي يحاول العلماء اختراعها لتعوّض الإنسان في العديد من المهام كالحراسة واستتباب النظام العام والعمل الشاق ويصنعها على شاكلته لكن أجسادها ليست كالأجساد البشرية ..هل مستقبل جسد الإنسان هو هذا مصيره الآلي؟هناك منزلق فني وفكري في الارتهان بهذا المصير الآلي، ذلك أن رهان التقانة البشرية يركز على الإعلاء من القدرات التخزينية والذهنية المتصلة بالذكاء الصناعي ودقّة التنفيذ وسرعتها، لكن دون روح ولا إنسية، ولا مبادرة ولا إنّية. فرسم الرأس بدون ملامح لا يعني أنه بدون دماغ ولا أنّ له دماغا آليا، إنما هو تشابه ليس إلا .فحبّذا لو تميل إهليلجية شكل الرأس إلى شكل جمجمة، هكذا يمكن فنيا إبعاد اختيار الربوت وما يتبعه من توابع.

******
لم هذه الأجساد هي غير مكتملة ؟ربما عدم الاكتمال هذا ونقص التمام هما تقنية فنية قصديتها مشاركة المشاهد في إتمام اللوحة في ذهنه. مثلما هو الأمر معروف لدى الفنان عبد الله بالعباس في بورتريهاته لإدريس الخوري ومحمد زفزاف أو جون جينيه . وكما هو الأمر في المسرح في ما يسمى بتكسير الجدار الوهمي الرابع لدى بريخت مثلا لكي يشارك الجمهور هذه المرة فعليا في أحداث المسرحية . إن ما يبقى يؤسسه المشاهد أو المتفرج تيمنا بالشعراء الذين أسسوا ما يبقى و يدوم.(هولدرلين).

*****
ما يبقى عالقا ومفتقدا في منجز الفنانة آمال الفلاح هي الأعضاء الحميمية التي عادة ما نخفيها لكي نظهرها بشكل مختلف.هذه الوضعية الإسرارية(ما يظهر ويختفي في نفس الآن) هي ما يسميه فرويد «أونهايمليش» أي تلك الغرابة المقلقة التي تدفعنا إلى إخفاء سر يقلقنا يتصل بالأعضاء التناسلية، فيتم كبت الحديث عنها أو إعلاء رسمها و تعظيمها أي بإخفائها و إظهارها في نفس الوقت.عدم اكتمال اللوحة إذن فعل مقصود من طرف الفنانة آمال الفلاح ولو أرادت اكتمالها لفعلت ذلك ولنجحت في إمدادنا بجماليتها، بالنظر إلى الدقة والرونق التي تصبغ بهما ما تبقى من أطراف الجسد الأخرى. يبدو أن للمسألة علاقة بالحشمة والكرامة.
هذه القيم تنتمي إلى مبحث الأخلاق وهي جملة مبادئ سماوية أو وضعية توجّه سلوكات الناس وتضبط معاملاتهم .حين تصاغ في تأملات فكرية و تصورات نظرية فلسفية تسمى إيتيقا مثلما هي في «جمهورية» أفلاطون و»أخلاق نيقوماخوس»لأرسطو و «ميتافزيقا الأخلاق»لدى كانط.الفرق بين الأخلاق وفلسفة الأخلاق «الإيتيقا» هو كالفرق بين الأوامر والنواهي والواجب والمستحب من جهة والتنظير والاستشكال الفلسفي لهذا الواجب وذاك الحق من جهة أخرى.
لكن العلاقة بين الإيتيقا والإستطيقا هي علاقة من نوع آخر:إنها لا تحدد سلوك الفنان بالأمر والنهي، إنما تمنحه ذلك «الميزان» الذي به يقدّر انخراطه في ميدان الفن والتزامه الفني كما يزن به قيمة ما ينجزه ويبدعه ويبتكره.هذا الميزان التقويمي نلحظ قسطاسه في منجز الفنانة آمال الفلاح بحيث لم تكتف بستر وتغطية أنوثة شخوصها ـ إلا نادراـ بل تجاوزت ذلك إلى توريتها كلية ومحو ملامحها جملة وتفصيلا.كل حروف الوجه الأنثوي أزيلت وبقي الرأس أملس ودون ملامح بضفيرته النافرة في شكل ذيل حصان، بها ندرك أننا أمام جسد أنثوي.
كانت «هناك» .(يعتبر ليفيناس أن «الهناك» يجسد اللامعنى ويشبهه بالظلام والعزلة والأرق وما يثير الهلع. وهو وجود بدون موجود ،وجود مبهم لامحدود.يشبه حفيفا مريعا لا ملامح له يقطع الصلة بالعالم إنه كصوت الرياح والأمواج في صدفة بحر كبيرة ) .على هذا اللحم والرأس كانت هناك حروف الوجه التي تغنّى بها الشعراء وبجّلها أهل الفن لكنها لم تعد…باتت هناك في ما وراء حروف وملامح الوجه (حور العين أنف كيلوبترا وابتسامة الجوكندا…) قدرات مغايرة، جمال آخر فيه دعوة لتجاوز الشكل إلى القدرات : القدرة على الفروسية وتأمل قوانين الكون وسمفونية الرقص والمسرح ..إن ذاك الالتزام الأخلاقي يرفع قيّمه ويضعها في القيم الجمالية بذوق رهيف وملكة الحكم الحصيف…
هل هو تغييب أو نسيان أو تهميش أو لامبالاة لمناحي معينة من جسد الأنثى؟لا هذا و لا ذاك.لأن كل هذه السلبيات السالبة للحضور وللتذكر وللمركز وللإهتمام بالأنثى ليس من قيّم الفنانة آمال الفلاح .. ولا هي من استراتيجيتها الفنية .إن انخراطها إلى جانب الاختلاف الجنسي وإدراكها الثقافي والجمالي لهذا الاختلاف لا يعني ضعفا ولا امتيازا وإنما هو «الآخر الذي هو أنا»لاشعور الشعور وأنثى الذكر وعكسيا . كل هذا جعل منها فنانة ترى الأنوثة في ما وراء الأنوثة وترى الجمال في أمكنة ليست هي الأمكنة المعروفة التي تغنّى بها الشعراء وترى القدرات خارج المفاتن في الذوات التي قيل بسببها «إن كيدهن لعظيم».
هناك قطع وبتر للأعضاء في كل اللوحات ، لكن ذلك يتمّ دون دماء ولا وحشية عكس الطريقة الدموية التي يتقن الفنان فرانسيس بيكون حركيتها.لإلغاء تلك النظرة الفالوكراطية بتلك العيون الزائغة لجسد المرأة، لا بد من إجراء قطيعة. فهي ضرورية ولا مندوحة عنها لتجلية البصر و تزكية الأفئدة . ولا سبيل إلى ذلك بسترها وتوقيرها إنما بحذفها بله بترها فتتضح الرؤية وتنجلي و لا تضيق.فرامية كرة الغولف مثلا حققت رميتها القمرية بارتكازها على رجليها وتسديد العصا بقوة يديها لا غير.. و صاحبة المعادلات الرياضية حققت ما حققته برجاحة عقلها،وتلك التي حملت الكرة الأرضية برمتها على ظهرها أو في بطنها لا يهم استطاعت ذلك بعزيمتها والراقصة بتوازنها والغاطسة بعمق نفسها…………………
فالجمال في هذه الحالة لا ينحصر في الأعضاء التي ألفنا وسمها بالجميلة وإنما يوجد في أذهاننا.إنه جمال تجريدي. يوجد في ما وراء ما هو ظاهري ليمنحنا الفكرة (أيدوس) المعوّضة للظل (سيمولاكر). قدرة فكرية ووجدانية تحوّل مرئي العالم إلى لامرئي الوجود. فنغدو أمام محتوى مفهومي لا ذات له ولا موضوع.إنه الجمال الخالص.


الكاتب : إدريس كثير

  

بتاريخ : 03/02/2023