سيرة أحمد طايل رأس مليء بالحكايات

 

عادة يكتب الكاتب أو الروائي سيرته الذاتية عندما ينهي مشاريعه، سواء كانت أدبية أو فكرية، دون أن يعني ذلك، وجود هذه القاعدة وانطباقها على كل الكتاب والروائيين، فرجالات الأدب لهم خصوصية. فأنت تجدهم أمام سير ذاتية مختلفة، فالروائي أو القاص، بل وحتى الشاعر، سيرتهم أي ذاتهم الشخصية حاضرة في مجمل إبداعاتهم الأدبية ولكن، بشكل غير مصرح به، وبذلك يمكن القول إن الأدباء لهم سيرتان ذاتيتان، واحدة غير مصرح بها، وهي في شكل شذرات، وأخرى مصرح بها كعنوان، سيرة، والسيرة أيضا فيها بعدان، واحدة واقعية وأخرى مفترضة أو لنقل متخيلة، والأديب يشتغل بحواسه وخيالاته، ولا يمكن حصر القيم التي ينتصر لها والتحكم في الدلالات التي يولدها من سيرته، ولذلك فسيرة الأديب أكثر تعقيدا مما يتخيل للدارسين والباحثين في السير، ولا يعني ذلك أن الأديب يكذب أو يزور أو يقدم ما ليس صحيحا أو مشكوكا في صحته، بل هو فاعل في انتصاره لقيمه والدفاع عنها، لكن بما يرى فيه فنية وأدبية، تقربه من القراء وتنال إعجابهم، بل انبهارهم بما يقرأون ويتابعون، وهنا أحب أن أتحدث عن الأديب الروائي والكاتب أحمد طايل، من منطلق ما عرفت عنه من خلال كتاباته والإنصات له بتمعن، واستشعار رهافة إحساسه الأدبي الحكائي. فهو يرسم بما يرى ولكن أيضا بما يشعر، غير أن سيرته التي أحاول الاقتراب بها منه، متشظية فنيا وأدبيا، بحيث يفرض ترتيبها ترتيبا جديدا لا تسعف العناوين في شده ليبدو كسيرة تقليدية اعتاد الكتاب على تأليفها في شكل روائي، وهنا متعة الصعوبة. لذلك ارتأيت أن أسميها القصص السيرية الأدبية، كتجربة لأول مرة أصادفها على غير العادة. فالسيرة هنا في شكل قصص لم تتبع الزمن الواقعي والتراتبي، بل اختار لها الأديب أحمد طايل صيغة أخرى، هي ما أحاول فك رموزها والاقتراب من عوالمها بما عرفت عن النقد الأدبي والروائي خصوصا:
الرأس والحكايات:: عنون القصة الباب، بدوّار يا زمن، في صفحتها 24 يقول»من ينسى أمسه، لا يوم ولا غد له» والحكمة واضحة، ففي الحكمة اللاتينية يقولون، نفي الماضي يعني العيش بدون مستقبل، لكن عبارة أحمد طايل، نتيجة تجاهل أو نسيان الأمس لا تهدد المستقبل وحده، بل حتى الحاضر، لكأن الكاتب يدعوك منذ البداية لإدراك حقيقة الأمس وضرورته لتنصت لما فات وهم يحكون عنه، فحاضرك لن تفهمه بدون أن تعرف ماضيك، وليست هذه حكمة تاريخية فقط، بل هي حياة بأكملها في الوجود والسياسة والمعرفة وحتى الأدب نفسه، ولا يمكن حفظ الذاكرة إلا بملازمة المكان الذي حدثت فيه الوقائع، وهو القرية الذي ولد بها الفرد، وهو أيضا الوطن بعد المدينة، وبذلك كانت الهجرة شبيهة بالنسيان لأنها تنتهي بمأساة الموت التي عبر عنها أحمد طايل وهو يطل من نافذة الزمن والوطن بعنوان:
2- طائر الموت:: الأسماء أحيانا هي أفكار، يتم استحضارها بفعل عادات الحكي، لذلك سأتعامل معها كأفكار من خلال ما يصدر عنها من أفعال، فقد مارس المحكي عنه الصيد بالصنارة، ثم انتقل للصيد باليدين، كإحالة على كثرة الأسماك وكبر اليدين وربما قوة الجسد والانتقال من الطفولة للشباب، لكن الصيد لم يعطل قوة الجسد وحرقة السؤال، فكانت حلقات الذكر ومعها الدروشة حلا لما هو روحي، بتأجيل الأسئلة والتغلب على الرغبات التي لا يسمح بالتفكير فيها مليا، كل هذا دفع للسفر ولم تطل الغيبة، إذ عاد المهاجر مع زوجة عراقية، فوجد البيت خرب بموت سكانه، كأنه يقول له، عدت بالسلامة وقد حققت ما أردت، فهل أنت تحيي الموتى ومن تحب بعد أن هجرتهم، فما الذي يخفيه أحمد طايل بهذه الحكاية؟
إنه يدافع عن ضرورة حفظه للبيت الأسري الذي يعتبره وجوديا هو مبرر حياته واستمراره، وهذه الحكاية تقود للتالية بقصدية، فالأب هو عماد الخيمة وعضدها.
3-الأب: في الصفحة 30 الوردة لا تنبت شوكا، فالأعراق الطيبة كالورود، لا تنبت إلا ورودا، وهي نفسها نصيحة الأب لأبنائه في الصفحة نفسها( لا تبخل عن فعل أي شئ يسعد إنسانا حتى لو كلفك الكثير).
لكن بأي دافع، فالأب هو ابن لمن علمه، لكأن الخير فيه الموروث والمتعلم، وأحيانا يكون الطبع غالبا للتطبع كما قالت العرب قديما، فماذا يقول الجد؟
4_ الجد: في الصفحة الموالية31 يقول الجد( سيروا حاملين العطاء، سيروا وأمام أعينكم الله).
إنها حكاية الجد الذي استقر بقرية فأنبت فيها خيره، وعلم الناس كيف يحبون بعضهم وألا يستغنوا عما ينالون به حب غيرهم واحترامهم، فلا يهم ما تأخذه منهم، بل ما تقدم لهم، لكنك تسأل أمام هذه العطايا، أين هي شرور القرية أم أنها خالية منها عكس المدن؟؟
5- حادث: القرية والأخوة فيها لا يعكر صفوها إلا الميل بما هو غرائز تتخذ شكلا عنيفا، فينقلب الخير إلى شر في لحظات، ليتولد الانتقام في صيغته العرفية، أي الثأر، بحيث تتسبب الغازية نوجا في انبعاث نار الغيرة بين الصديقين الشبيهين بتوأمين، هما، طالب ومعوض، فيقتل أحدهما الآخر فيحكم عليه بالسجن وبعد انقضاء محكوميته والقبول بالدية، يعود للقرية فيجد أهل القتيل في انتظاره ليثأروا لقريبهم.
6- العطاء: الناظر يذكره كما هي عادة الرؤساء عندما يلاحظون تفاني غيرهم في عملهم، يقول ناصحا:
« انتبه لنفسك، أنت تجهد نفسك» ص52
فيكو الجواب:» اليوم الذي يمر على الإنسان دون أن يضيف له شيئا، لا يحتسب»ص53
وهذه القصة تنضاف إليها الموالية:
7- وفاء نادر: حيث الوفاء الذي لا ينسى به الناس بعضهم، وإن لم يقدموا خدمة للآباء يبحثون عن أبنائهم.
8- صداقة: وهي إحدى صيغ الوفاء، وهنا يقدم الروائي أحمد طايل نموذجا للصداقة بين الكتاب، كشعراء وروائيين مستشهدا بما قاله الكاتب الروائي، ابراهيم أصلان» عاش جيلنا أحلاما كبيرة وخيبات أمل كبيرة أيضا» ص62 وأصلان هو كاتب رواية «مالك الحزين» التي تحولت إلى فيلم الكيت كات، بطولة محمود عبد العزيز.
إن هذه الحكايات التي يستحضر فيها كتابا آخرين مثل، جابر عصفور، سعيد الكفراوي، سمير سرحان، لهي استحضار أيضا للموروث الشعبي في طيبته ولكن أيضا للموروث الثقافي الذي عرف تغيرات هو الآخر وتحولات، لنجد في الأخير قصة صادمة، لكأنها رصد لعالم غريب ظهر في العالم العربي كله ولم تكن مصر فيه استثناء، مع تغير الأسماء فقط.
الحلنجي: اسم من رواية محمد فريد، وهي تلك الشخصية المحترفة للسياسة كوسيلة للرقي الاجتماعي، والتي يغتني بها هذا النمط من البشر، لكنه قد يضيع بها عندما يقترف أخطاء قاتلة في سلوكه السياسي، أو يذهب به طموحه أبعد مما وضع له.
العودة: لكأنها الرسالة الأخيرة، التي مفادها، عودة الذات لما كانت عليه، فبعد موت الوالد والوالدة، كانت العودة دلالة على حب عالمهم في القرية كبديل لشقق المدينة التي افتقدت معها كل معاني الحب والحميمية التي اعتادها الطيبون في حياتهم، سواء كانوا كتابا أو أناسا عاديين.
ما الذي سعى إليه الروائي أحمد طايل من خلال هذه التجربة، أو ماذا تحقق بهذه السيرة، وما هو أثرها الأدبي والجمالي؟؟
1 عالم منكسرات:
لم يعد العالم أمامنا منذ ظهور العولمة كما هو، فقد تشظت فيه وحدة لتهيمن قيم العولمة، وهي مفارقة غريبة، إذ العولمة تخلق وحدة في أنماط السلوك الاستهلاكي المتشابه بين كل الثقافات، وفي الوقت نفسه، تعمل على خلق صراعات وتمايزات من خلالها تهيمن بإضعافها حتى لا تترك لها المجال لممارسة اختياراتها، كل هذا كان له تأثير على الفكر والأدب، إذ الذات لم تعد قادرة على التعرف على ذاتها في المنتظم والموحد، بل في المتعدد، أمكنة، قرية مدينة، قديم جديد، رواية قصص، حتى عالم الفن عاش ثنائياته الخاصة، الرسالة الربح، الحب- الجريمة، الاستقرار- الهجرة.
2- رواية قصصية:
القصص المذكورة هي عبارة عن رواية متشظية، الذات حاضرة بشكل صريح في بعض القصص، وفي أخرى هي مضمرة، تنوب عنها شخصيات أخرى، ترتدي ثوبها أو تحمل صفاتها أو حتى تغضب غضبها وتتكلم لغتها، والسؤال، لماذا يفعل الكاتب ذلك؟
يتطلب الأمر قراءة لكل أعمال أحمد طايل، لكنني سوف أغامر مدعيا أنني فهمت رهاناته، فالروائي ابتداء من عمله الرابع أو الثالث، يبدأ ميله للتجريب محاولا تكسير عوالمه بأشكال جديدة، تتضح في ما بعد عندما يمسك النقد الأدبي بنظمها التعبيرية والنسقية، فيعود لقراءاتها ومختلف أنشطتها القرائية وحتى الكتابية، وبذلك يكون الروائي أحمد طايل مفكرا في تغيير أسلوب الكتابة الاعتيادية وغير مطمئن لما ساد حول الشكل الروائي، خصوصا السيرة الذاتية.
3- القيم والمثل:
إن الروائي أكثر الأدباء تفاعلا مع العالم، فقد اعتبرته في كتابات سابقة لي، سوسيولوجيا فاشلا، يدرك الظواهر الخفية، لكنه عاجز عن حلها بحكم أدبيته، ولأنه كذلك فهو مفرط في حساسيته تجاه القيم، الجديدة والقديمة، فلا ينتصر لجدة الجديد ولا قدم القديم، بل يبحث عن الإنساني فيهما، ولأن الحداثة كانت عنيفة في اقتحامها لعالمنا العربي، فقد وجدنا أنفسنا في مواجهتها بما طلناه من قيم وأحكام أدبية، بها ينتصر الأديب لأدبية الفكرة وجمالية الرفض والبطولة في عالم بلا أبطال.


الكاتب : حميد المصباحي

  

بتاريخ : 19/02/2022