انتهى الموسم الدراسي على إيقاع حدث غير عاد شغل الناس جميعا أو هكذا بدا لي. حدث بدت ملامحه الأولى في الأسواق حيث وزعت أوراق بيضاء تحمل «نعم» وأخرى زرقاء تحمل «لا»، وتحلق الناس حول أشخاص يشرحون لهم معنى الكلمتين والفرق بين الورقتين، ويذكرونهم بالسياق، ويوضحون لهم كيفية التعامل، ثم يحثونهم على التصويت بالورقة البيضاء لأنها رمز الصفاء والوفاء وسبيل إصلاح البلاد والعباد. إنها طريق الجنة والخير والنماء. أما الورقة الزرقاء فهي حسب الخطباء لسان الشيطان وطريق الفتنة وشعار المساخيط. فابتعدوا عن «البركاويين» يبعدكم الله عن الآفات. سألت بابا سيدي، ونحن عائدين من السوق الأسبوعي الذي شهد تجمعا حاشدا دعي له أعيان القبيلة طرا، أن يفهمني ما يجري. شرح لي أنه الدستور. أمعنت في السؤال:
– ما معنى الدستور؟
– من صوت ب»نعم» فهو مع الملك، ومن صوت ب»لا» فهو مع بنبركة.
– هل بنبركة هو من اختار اللون الأزرق وكتب «لا»؟
– بنبركة شوري، وهو ضد الدستور.
كررت السؤال:
– وما هو الدستور؟
– هذه أمور لا يفهم فيها سوى المخزن. اهتم بدروسك والعب مع أقرانك.
لم أفهم شيئا، وربما لا أحد من الفلاحين فهم شيئا، وما كان في الإمكان أن يفهم أحدهم شيئا. غير أن إقبالهم على التصويت كان كبيرا بعد أن طاف الشيوخ والمقدمين صحبة المخازنية بالدواوير، يأمرون الناس بالتصويت ب «نعم» المرضية، وانطلقت أصوات « البراحين « تحث السكان على أداء الواجب الوطني. صبيحة يوم الاقتراع، حل ب»الجامع الكبير» شخصان يرتديان زيا عصريا أشرفا على عملية التصويت، استقبلهما أهل المدشر بحفاوة وكرم، وودعوهما بعد أن أنهيا المهمة ، وأهدوهما زيتا صافيا وسمنا وديكة. شارك سكان الدوار عن بكرة أبيهم في الاستفتاء ، بما فيهم «عبود» الخبل و»فطيطم» الحمقاء. سئل عبود على سبيل المزاح عن الورقة التي أسقطها في الصندوق فقال أنه سلم الورقة الزرقاء للمراقب الأول والبيضاء للثاني، وكلفهما بوضع الورقتين معا في الصندوق الخشبي، وأردف:
– أنا رجل جدي ولا أحب التمييز بين الناس ولا أفضل لونا على آخر، الألوان كلها عزيزة عند الله
أما «فطيطم» غريمة «عبود» فقد احتفظت بالورقتين معا وصرخت في وجه المراقبين:
– سأشتري بهما دملجا يوم السوق… وريحية.(حذاء نسائي تقليدي محلي ، يصنع من جلد ونعل)، ألا تعلمون أني سأتزوج «بوغداج» قريبا.؟
بعد أيام، سمعت عن الناس، الذين سمعوا عبر الأثير، أن الدستور نجح. سالت جدي كما العادة:
– بأي معدل نجح «سي الدستور»؟
– وما شأنك وشأن الدستور؟ اللهم احفظ هذا الطفل.
– مما يا جداه؟
– من عين أبناء الحرام.
انصرفت فعلا للعب مع أقراني ، أستمتع بمرافقة الرعاة ومشاركتهم رغيفهم وألعابهم نهارا، وأحن للبيدر ليلا، أتثقف على يد بابا سيدي الذي لا يتوقف عن الحكي عن ياجوج وماجوج، والعملاق، وسيدنا الخضير، وعن كرامات سيدي احمد التيجاني مروض الأسود،ومولاي العربي درقاوي دفين بوبريح … إلى أن استؤنفت الدراسة وفق نفس الدورة الزمنية وعبر نفس الفضاءات.
شيئان جديدان طبعا ذاك العام، أبرزهما بداية تعلم اللغة الفرنسية وتتلمذي على مدرس جديد للغة العربية. أستاذان على طرفي نقيض في كل شيء: سي عامر أستاذ الفرنسية، أنيق ، لطيف ، مبتسم، وبشوش، رقيق القسمات، أعزب، قريب إلينا، يمازحنا ويشركنا لعب الكرة بعد الحصة المسائية. سمات لم تنقص من جديته وحزمه. لم يدخر جهدا في تعليمنا أبجديات اللغة الفرنسية ونطق حروفها وكتابتها. وسي المفضل، ابن القبيلة، صعب المراس، غضوب وعنيف. جدي في عمله لكن إلى حد القسوة. لا يتردد في اقتطاع أغصان الأكالبتوس ليجعل منه عصيا ينهال بها على أجسادنا لأتفه الأسباب. لذلك سميناه «الجزار». بقدر ما كنا نقدر ونحب سي عامر ونسعى إلى حصته في غبطة وسرور، كان امتعاضنا من سي المفضل وعلمه ، نفرح لمرضه وندعو عليه بما يتمناه الإنسان لألد أعدائه. أسعفتني تجربة وزان، وما تعلمته على يد مسيو حاتمي، على أن أتقدم زملائي في اللغة الفرنسية، وأن أنهي السنة في الرتبة الأولى.
كان للسنة أحزانها أيضا، في غضونها فقدت صديقي الأعز. إنه «هتير»، وهو طفل رقيق العواطف، دمث الأخلاق، عاش يتيما منذ ولادته وتربى في حضن أب مغلوب على أمره ، وزوجة أب ظالمة، ما رحمت يتمه ولا أشفقت لمرضه. فعاش عليلا، سقيما، شاحب الوجه، منخور القوى. كان يأتي المعمرة في صباه إلى أن بلغ منه الوهن الزبا، فلزم البيت. كان يقضي أطراف النهار متكئا لحائط مقابل للجامع الكبير. أوقات الفراغ كنت أتفقده، وأحيانا كنت أستضيفة لأيام بدار بابا سيدي، أشركه طعامي وملبسي وألعابي. يرافقني متى استطاع لجمع البلوط أيام الشتاء، ولاصطياد الطيور في محيط الدار أياما أخر. لم يعرض المسكين على طبيب، ولم تنفع في علاج سقمه تمائم الفقيه ولا ترياق الصالحين. تدهورت أحواله أواخر الربيع إلى أن رحل. رافقت جثمانه إلى لحده، وصليت له راجيا من الله أن يلحقه فورا بجنة النعيم ليحلق في سمائها الواسعة، وينعم بفضائلها بعد أن حرم في الدنيا من الصحة والحنان ووجه الأم الرؤوف.
في عز الصيف، قدم والديٌ من سوس، صحبة عبد النبي والعلمي، دون منانة التي تعمدت أمي إبقاءها مع الخالة محجوبة، خشية أن «تسرقها» منها جدتي كما سرقت أنا وفاطنة. في الحقيقة، لم أحفل كثيرا بقدومهم، لكني غبطت حالهم. طفلان صبوحان يرتديان قمصانا وسراويل عصرية قشيبة، وشعور ناعمة مصفوفة، وأم ذات قد معتدل ووجه بهي باسم، وقميص من حرير، ومنديل من الخز الناعم، وخف صقيل؛ وأب عريض المنكبين ، فارع القامة، كثيف الحواجب، نافر الأنف، حاد النظرات. يعاملهم الجميع معاملة متميزة، ويسعى الناس لخدمتهم واستضافتهم، يسألهم كل من غاب عنه قريب أو حبيب إذا ما كان لهم به علم. كانت «منانة البكاية» لا تكف عن استعطاف والدي أن يدلها على مكان ابنها الذي يقال أنه شارك في حرب فيتنام، انتظرت عودته لمدة عشرين حولا. لم يعد، ولم يرحم دموعها التي ذرفتها بسخاء آملة أن يعود يوما لأمه وأرضه الحبيبتين.
عاودني سؤال طالما دار بخلدي: لم ذهبوا دوني إلى المدينة؟ وكيف تمت القسمة، وعلى أية معايير؟ في أعماقي، كنت أخشى أن يكون المعيار هو الحب الذي يكنه الأبوان لكل منا. ما أن استراح القادمون من عنت السفر حتى بدأ الإعداد لعرس أختي فاطنة، التي لحقت ب»نانا « بأولاد صالح، وتحديدا بمدشر «أحمار» القريب جدا من المدرسة. كان العرس حفلا رائعا قل نظيره في مستوى سمعة أهل العريس ومكانتهم في قومهم. دامت أفراحه ثلاثة أيام :غناء ورقص وبارود. من طرائفه أن جدة أبي من أمه ، وهي عجوز تجاوزت حينها العقد الثامن، قدمت من مدشر بعيد، ولما أطلت على «غرس علي» ألحت على أن تستقبل بالزغاريد والبارود، وإلا فستولي الأدبار وتعود من حيث أتت. صباح الجمعة الموالي طلبت مني أمي أن أرافقها لزيارة قبر والديها ب»تلمات». في الطريق سألتني عن تفاصيل حياتي في غيابها فحكيت لها عن كل شيء، عن الجميل والسيئ، عن لحظات الفرح ولحظات الأسى والألم، عمن أحسن إلي ورعاني بحنانه، وعمن أساء معاملتي وألحق بي الأذى، عن خصوماتي ومعاركي، وعن أساتذتي ومساري الدراسي. أنا أحكي وهي تعلق حسب المعلومة والسياق:
– مسكين ولدي… – لعنة لله على…- لله يرحم فلان… لله يرضي عليك يابني…