سينما كليشلوفسكي: تراسل في الإيقاعات الميتافزيقية للإنسان

 

رُبَّ سؤال عن أيهما أكثر تماسًا للكنه الإنساني الفلسفة أم السينما؟ للإجابة عن هكذا سؤال ينبغي علينا الالتفاف حول البعد الأنطولوجي للزمن، ومراقبة سريانه في أوردة الوجود، هل إن السينما هي فن زمني أم إنها فنٌ ميالٌ للاحتكاك بالزمن من خلال مضاعفة البحث عن الحجر السحري في العمل على استفزاز البصري بالفلسفي؟
وإن توافر ذلك، فلن نحظى بسينما خلّاقة للرؤى والمفاهيم فحسب، بل عالمًا سينمائيًا يمشي بساقي الصورة والمفهوم، وتنطبق هذه الترسيمة على سينما البولندي كريستوف كيشلوفسكي، بما تحمل من ثراء إنساني وفكري، وتُعدّ أفلامه ترحال اللغة المنثلمة بالصورة المستدعاة من رغبة اللغة في التيه بمرايا الحساسة، ذلك لأن السينما هي روح الشعر فن حاسي أكثر منه عقليًا، وهي الفن الوحيد الراصد لعقلية الحاسة ودورها في تفعيل ضرورة ترحيل العقل خارج التوقع البصري، والأخير بالنسبة للغة هو مرحلة من مراحل الإحساس المضاد، إذ ليس هناك تلقٍ تراكمي في السينما بخلاف ما يحدث في الفنون البصرية الأخرى مثل التشكيل والمسرح لكونهما يعتمدان على مقام الساكن وأعني بذلك النص المكتوب والعمل الفني سواء أنحتًا كان أم عملًا صباغيًا، أما السينما فهي فن السكون، ما يجعلها المعادل البصري للشعر.
إن السينما لدى كيشلوفسكي تراسل في الإيقاعات الميتافزيقية للإنسان، محرار لقياس درجة حرارة العالم بالذات المُتألهة بالعزلة المؤثثة بالفراغ، فعند التدقيق في «ثلاثية اللون» تشعر كأنك في حضرة كاهن يمرّن الزمن على إقامة صلواته في الزمن، هذا التجلي دليل تيقنه بأن السينما فن يستلزم توافر ذهنية الحاسة، أو بالأحرى هي فن يراهن على وفرة الجنون لدى المتلقي، واقترابها من سرّية الجنون متأتٍ من الإصرار على محو العقل بالحاسة، ففي الجنون ينزح المخيال من دائرة العقل إلى رحابة الحاسة، وفي ضوء هذه الرؤية ليس هناك جنون، إنما ارتحال من المحدود إلى اللامتناهي، إذًا الجنون هو عقل حاسي وليس كما يتصوره العامة من الناس، وهذا العقل هو ما تحتاجه سينما أُرسيت دعائمها على الفلسفة والشعر الراسبين في تربة الزمن، كذلك هي سينما حافلة بالرهان المستقبلي لكونها مسندة ببلاغة الزمن النازحة من أفق التوقع إلى المدار المجهول، ما يُجيز لنا إدراج كيشلوفسكي في لائحة التجارب الوازنة لسينما الشعر، وتكمن شعريته في اعتماده التباطؤ في تمرير الحدث عبر ثقوب حكاية مفككة، تتشاكل مع الفراغ ليُقيم فيها. ذلك في تبنيه مفهوم الوقفة المسرعة، وهذه مزية أخرى تجعلنا نلوّح بأن سينما كيشلوفسكي هي أقرب التجارب السينمائية إلى الجنون، لأن المجنون يتحرك بتسارع لكنه في قرار نفسه متوقف.
إنّ مقاربة السينما بالجنون من وجهة نظري هي الفهم السرّي لعوالم الراهب البولندي الذي اجترح مناخًا سينمائيًا لا يُبارى، فما بين فلسفة الصورة وبلاغة الزمن يقف متأملًا الحياة بوساطة تكاوينه الصورية، وإن كان هناك من يرسم بالألوان، فكيشلوفسكي قد برع في حلّ عقدة ألوانه الفكرية في زيت الأزمنة، إذ الشريط الفيلمي هو القماشة الوحيدة المؤهلة لامتصاص حركة الزمن شكلًا ومضمونًا. إنها سينما الوتر المفقود من كمنجة الوجود، كل شيء فيها يُشير إلى رغبة في تخفيف إدانة الحركة الصاعدة بالإنسان إلى أعالي التفكّك والانهيار، أي هي اختبار الحركة بالانجماد، فعلى الرغم من رفض كيشلوفسكي انصياع السينما للأزمات السياسية لكنه في «الحظ الأعمى» سعى إلى مناورة الحدث بعنكبوتية زمنه، فظهرت لنا ملامح لتاريخ بولندا الاشتراكية، وكيف كانت الحياة آنذاك.
لقد شكلت تجربة كيشلوفسكي ظاهرة نادرة في السينما العالمية، فعند إجراء فحص «DNA» لمجمل أفلامه نجد بأنها متولِّدة من الفهم الكيشلوفسكي للوجود والسينما، بعدّها إحدى العناصر الرئيسة في حياة راهب بلغ أعماق الفكر السينمائي، فوصل إلى يقين رؤيوي بأن السينما هي صلوات بصرية في طواف دائم حول آلهة الشعر التي هي الزمن، إن كل فيلم لديه هو بورتريه فلسفي لسؤال يعانيه كيشلوفسكي بتعدد مراحله العمرية، والفكرية، وتأكّد هذا الايقاع في فيلم «مهووس الكاميرا» متناولًا ثقافة الكاميرا في مواجهة الحياة، وتدور إسطوانة الفيلم حول شاب يصور طفلته المولودة للتو، فيلتهمه عالم التصوير، مستسلمًا لدهشة الصورة وهي تتحرك على شريط يمتص المكان بحركة الزمن. وفي ظني أنه أراد في إخراجه لفيلم «الهاوي» أن يحتفظ بعمق السينما الكيشلوفسكية حيث صناعة الوثائقيات عتبة منزله السينمائي.
يذكر كيشلوفسكي في مذكراته «الحياة بين قداسة الفن وخطيئة الفنان» أنه لا يستطيع تخيل حياة من دون بولندا، كأنه في مصارحة مفتوحة مع السينما بأن صناعة الفيلم لديه هي تعرّق مكاني، وأن معمله الإبداعي ينطلق من ذاتية مكانية مفكرة، وقوله إنني عندما أتأمل نفسي في المستقبل، لا أسطيع أن أراها إلا في بولندا، هذه كلّها إشارات نظرية، وعناصر رسوخ ومتانة في تجربة مخرج جاء إلى السينما من الروح قبل العقل، وتجلت هذه الملامح في ثلاثة الألوان تطوف حول «الله»، تلك المعجزة التي مارس فيها كيشلوفسكي دوره إلهًا بصريًا لا يعلم بسرّ خلقه السينمائي سواه، إذ يقول: «يمكنك أن تعد عدة أشياء بسهولة تامة، لكنك لن تفهم أبدًا كم تعني لي الأفلام التي أقوم بإخراجها أو القصص التي أرويها، ولماذا، لن تكتشف ذلك أبدًا، أنا أعرف ما هو، لكن تلك المعرفة لي وحدي».
إذًا نحن في فردوس فنان حواسي، ويبدو لي أنه بهكذا آراء أراد أن يقارب فهمنا القائل إن هذا النوع من السينما صوفي المقام والحركة، ولكي نعي تجلياتها يلزمنا التلّبس بجنون الملائكة، وإلا كيف لإنسان أن يعي معجزات مثل: الوصايا العشر، والحظ الأعمى، والحياة المزدوجة لفيرونيك.


الكاتب : محمود عواد

  

بتاريخ : 19/03/2022