شارل بودلير يُضارع إدغار ألان بو

ذ. رشيد سكري

يظل الإبداع العالمي ملكا للإنسانية، وهذا ما جعل التأثير والتأثر أمرا حتميا بين الأدباء والشعراء والروائيين . فبالنظر في خريطة الأثر والصدى، التي تربع عليها الإبداع، سنجد أن الشاعر الكبير لا يتأثر إلا بشاعر كبير أيضا، وهذا ما يخلق، للتداخل النصي، شرعية تتجاوز كل الحدود. إن بدر شاكر السياب، الشاعر العراقي، رائد الشعر الحديث، تأثر بالشاعرين الإنجليزيين إديث سيتويل و ت.س . إليوت، كما أن نصوص السياب هجرت بدورها إلى الشاعر المغربي محمد الخمار الكنوني، وهذا الرحيل يأخذ معه البناء الشعري كله من فضاء ورؤية ومتخيل.
كما أن للترجمة دورا حاسما في انتشار وإذاعة الإبداع من مختلف المشارب المعرفية، محافظة على إيقاعية المعنى وبنائه، حيث تسعى نحو انفتاح المعرفة على تجارب أخرى. ولأننا لن نجد تطابقا كبيرا بين النص الأصلي والنص المترجم ، لذا فالترجمة الناجحة تلك التي تحافظ على صخب الحياة وسكونها، أو التي تجسر بين صاحب النص الأصلي وبين صاحب النص المترجم.
من هذا المسلك الدقيق كانت العلاقة التي ربطت شارل بودلير (1821ـ1867) بإدغار ألان بو(1809ـ 1849)، والتي تجاوزت كل الحدود الجغرافية. فـ «بو» كان من بين رعيل الرومانسيين الأمريكيين الذين احترفوا النقد الأدبي، واستهوتهم القصيدة والقصة والصحافة والدرامتورجيا، بينما بودلير رائد الحداثة والرمزية في الثقافة الفرنسية، يدافع بشراسة عن مجهول الفن وعن التجاوز المستمر للذاتية الرومانسية، التي تجعل من الأنا قطبا أساسيا في الإبداع.
ففي منتصف الأربعينيات ونيف من القرن التاسع عشر، وبالضبط ما بين 1846ـ 1847، وفي صخب الحياة الماجنة لبودلير، تعرف هذا الأخير، من خلال نصوصه المترجمة في الصحافة الفرنسية، على إدغار ألان بو. وعبر صديق الأسرار الكاتب والصحفي شارل أسولينو، تلقت الساحة الثقافية الفرنسية أول سيرة ذاتية لبودلير، والتي تحمل عنوان «شارل بودلير حياته وعمله»، وذلك سنة 1869، أي بعد سنتين من وفاة الشاعر.
يقول أسولينو: «حياة بودلير الصاخبة تحتاج إلى الكتابة …» وفي هذه السيرة الذاتية سلط الضوء، أسولينو، على حياة الصداقة والنساء والخمر والكتابة، وهذه الأخيرة لم تفارق بودلير حتى آخر رمق من حياته. يقول بودلير عن بو: «عثرت على كاتب أمريكي، الذي أثار في تعاطفا منقطع النظير، وحب الحياة والتفاني فيه تجاه بو».
إن اكتشاف بو من طرف بودلير، كان السبب الرئيس في انتشار أفكاره ورؤاه في المشهد الثقافي الفرنسي ، فلما كان البرناسيون يهيئون للمعركة الكبرى، بهدف السيطرة على مداخل ومخارج الأدب الفرنسي، وتحقيق الانتقالة الكبرى من الكلاسيكية إلى الرومانسية، تحمس الواقعيون أمثال غوستاف فلوبير وسلامبو إلى جانب الطبيعيين؛ إميل زولا وكلود برنار ليخطفوا مشعل التغيير وجوهره، ويعلنوا بالمكشوف عن التأثير الكبير الذي حققه «بو» في أدبهم.
في يوليوز من سنة 1848، كانت مجلة «حرية التفكير» الفرنسية، التي يديرها الصحفيان والأديبان أميدي جاك وجولي سيمون، على موعد مع أول نص ترجمه بودلير لإدغار ألان بو، وهو عبارة عن قصة تحمل عنوان «كاشف الذبذبات»، التي يحكي فيها عن الدور الذي تلعبه الأشعة المغناطيسية للكشف عن الأمراض التي تعلل الإنسان، وبموجبها ـ أي الأشعة ـ ينتقل من عالم الخرافة والأسطورة إلى عالم الحقيقة، علاوة على أنه علم يوازي مطلقا علم الخيال، ومدى تأثير التنويم المغناطيسي في المجال الطبي.
وفي تصريح مثير أقدم عليه الشاعر ليون لُمونيي، مفاده أن شارل بودلير كان هو الأنسب لترجمة أعمال إدغار ألان بو؛ لأن الكبار لا يناسبهم في الترجمة إلا الكبار . وفيها ضربَ لُمونيي عرض الحائط كل المجهودات التي قام بها كل من وليام هوغس وفرنسوا راب وإزابيل مونيي . وفي اليم الذي تتلاطم أمواجه، وتهب رياحه بالترجمة والتأليف، كان صاحب «أزهار الشر» لم يشرع في ترجمة أعمال إدغار ألان بو إلا بعد وفاته، وإن كانت روح بودلير تتماهى مع مثيلتها في هذا الجسد النحيف؛ جسد الكاتب الأمريكي.
سارع بودلير الى الترجمة التي شملت الدراسات النقدية التي أنجزها «بو»، علاوة على رواياته وقصائده. وكانت روايته «حكايات عجيبة «من بين الأعمال التي استأثرت باهتمام كبير من لدن الأدباء الفرنسيين، وبها اعتبروا إدغار ألان بو رائد الحداثة في عصره. والوصل بحكاياته العجيبة، التي أطبقت شهرتها كل الآفاق، والتي وصل فيها رجل إلى القمر بواسطة البالون الهوائي، فضلا عن خروج الموتى من المقابر لترويض الأحياء في الشوارع العامة، وبهذا تأثر «بو» بالحلم والروحانيات وما وراء الطبيعة، وتمكن بذلك من أن يبدع عالما غير حقيقي، ماثلا إلى السريالية، يقول عنه بول فاليري: «ألان بو» استعار طريقا ملكيا نحو الفن، اكتشف الغريب داخل البديهي، والشيء الجديد في القديم، والجمال في القبح، إنه مبدع مثالي».
في لقاءات صحفية عدة عقدها بودلير بسبب شهرته الشعرية والفنية، وكان السؤال الذي يهيمن في مثل كذا لقاء ؛ لماذا تـُترجم لإدغار ألآن بو ؟ وكان الجواب دائما : لأنه يشبهني ، وعندما أفتح كتابه، أحس أنه قريب مني؛ قريب بالخوف والدهشة والفرح.
هذا التطابق جعل من «بو» النفس الثانية لبودلير، فضلا عن هذا التشابه بينهما ، قرب ـ أي التشابه ـ المسافة الجغرافية التي تفصل بينهما ، ف» بو « ينتمي إلى القارة الأمريكية، بينما بودلير إلى القارة العجوز، فبالرغم من هذا التباعد الخاص في البعدين الثقافي والاجتماعي ، إلا أنهما يتقاطعان على مستوى الرؤية الإبداعية، وعلى مستوى صروف الدهر والحياة . وفي هذا المرمى الخاص، كان بودلير يعتبر هذا الاستحواذ، المتعلق بالترجمة، على أعمال إدغار ألان بو، مهمة دينية.
كانت اعترافات بودلير في مذكراته الحميمية «القلب المكشوف» الخاصة بالوضع الاعتباري للكاتب الأمريكي في الثقافة الفرنسية، بمثابة تقارب خطير على مستوى الظروف الاجتماعية الصعبة التي كانا يتقاسمانها ؛ ففي مقدمة هذه الصعوبات نجد الفاقة المالية ، التي أثرت عليهما على حد سواء، علاوة على المعاناة مع الديون، التي كانت تربك مسيرتهما الإبداعية ؛ فالعوز المادي كان هو القاسم المشترك الذي يؤلف بينهما. غير أن في « القلب المكشوف»، والتي لم يشق طريقه إلى القراء، أي ظل في حالته الورقية، إلا بعد وفاة صاحب «أزهار الشر» سنة 1867 ، تجاوزا لهذا الإملاق، الذي عرف به الأديبان، فيجيئ منطق الرسائل ليعوض فشل بودلير في تعلقه بأهذاب الحياة المنفلتة من بين الأصابع.


الكاتب : ذ. رشيد سكري

  

بتاريخ : 03/06/2022