شطحات اجتاحت الحلم

تغلبني الحاجة للنوم، بعد تحميل حلقات من لغو الساعة، حوارات ومواقف ومناظرات، وبرامج في معظمها نزوع واع للإفلات من طواحين التخدير والتفاهة، أترك السماعة في أذني، أسلم نفسي لقرار السفر الاختياري مع أفكار آخرين يقترحون نوافذ مشرعة تسمح بمعرفة ما وصلوا إليه، ولدقائق قد تطول أو تقصر .. أستسلم لحياد مرغوب يتلقى ما أجهل وما لا أشاء.
أتمدد فوق سرير الأحلام، أجدني مغيبا بسبب السباحة في الخواء وعبثية تكرار الكلام ولا جدوى محاورة جماجم غير مستعدة لاحتضان نور الفهم وصحة القناعات، أترك الحبل على الجرار، بين الوعي والإنصات المتفاعل وبين ارتخاء حبل التفاعل مع المنطوق، بين اليقظة وبين النوم، أجدني داخل فضاءات قنوات وحوارات سريالية، ينفلت مني زمام التفكير المنظم، أغرق لاإراديا في غياب مخلوط بالتماعات صحو غامض، وأفقد القدرة على توجيه فراشات تائهة في سماوات خواء دون معالم.
أحاول التركيز فيما أسمع، لا جديد يشعل الحواس، ولا فائدة من مجادلة الحمقى، الأفكار نفسها تتكرر، المتكلم يخاطب أحمق يصر على تقديس حمقه، يصب الماء في الرمل، أنتظر الارتواء من السراب، وببطء سلحفاة خانها حدسها الجائع، أغرق في حالة اللاوعي ببطء، أنام ويرعبني ما أرى.
تخطفني لحظة سهو ووهم، أراني فوق صخرة صالحة لتأمل تفاصيل الغروب، أحس بعطر حبيبتي يملأ رئتي المستباحة، ورعشة اختلاط الأنفاس واشتباك الحواس تطير بالذات نحو عوالم يغيب عنها سوط العشيرة الأبله، تضع رأسها فوق كتفي الأيمن، نتابع سقوط القرص من سحب تقاوم التلاشي في تشكيل يفرض عليك الانصياع لحتمية الصمت والشرود.
نعيش ولا ندري، نراها تختفي بتوأدة، تغيب، في اختفائها خيانة للوعود ولما كتبناها على وجه رمل ترغمه الريح على التنكر لما سبق، وغدر لما نقشناه من قرارات على صخر الهروب المشتهى، وفي الوقت رحيل قاس، سفر نحو المجهول، وسكون يمحو لغط النهار.
أستسلم لسطوة الفناء، أقيم مناحة غروب ودعت جزء مني بلا نحيب، وفي تأملاتي المخدوعة، يحملني بساط الندم إلى هناك، يهزمني الغياب ويسلمني لمويجات امتهنت حرفة قتل الذكرى وانصاعت لتيارات النسيان وأغرقتني في تموجات الحنين.
بسرعة الحلم، تستغفلني ذاكرة النائم، في لحظة لا رابط بينها مع ما سبق، تختفي حبيبتي دون سابق إعلام، أراني في وسط قاعة محكمة، يبدو أنها كانت محاكمة تاريخية للبطل، في المنصة هيئة وجوه لامعة يتوسطها قاض سمين أصلع، وخلف حاجز المتهمين يقف الشهيد واثقا من رجولته، مطمئنا لوطن لا يخون شرفاءه، لا مبال بأشباح عاصفة الصحراء، وغير نادم على قرار عرَّى سوءات أوغاد خانوا سذاجة أوطانهم وغدروا بتاريخ مكتوب على عجل.
في حالة النوم الطاغي على وهم الصحو المعطوب، كنت أعرف أن الشهيد مات مقتولا شنقا ذات عيد أضحى كئيب، وأعرف أنني الآن في حضرة حلم مؤكد، سمعت القاضي المعين من طرف كراكيز أمريكا وحفدة شيعة منعتهم أحقادهم من الوفاء لجرح ما بين الرافدين، خانوا الأرض والوطن والتاريخ، صاروا قردة وتيوس جرباء، وأملوا على الحاكم صيغة حكم ملعون، قرأ ديباجة عهره المكروه، اكتفى الشهيد برفع أصبع الشهادة وقاطعه صارخا: «يحيا الشعب، الله آكبر!»، وما في الحلم غير كسر الخواطر.
لم أهتم لحيثيات وجه الشيطان السمين، كما لو أنه يحرك شفتيه دون نطق كلمات مسموعة، كنت أسمع بوضوح لصوت الشهيد يردد «يحيا الشعب» عدة مرات، ربتت على كتفه اليمنى، وقلت له، أو هكذا خيل إلي: «لا عليك يا حبيب الجماهير، سيقتلونك اليوم، وبعد عقود، ستكون بذرة ثورة، ينبت جيل من الأبطال، يندم سماسرة البئيسات العاهرات، وتنتصر أنت!»، لم يرد على كلماتي، ولم يلتفت إلي، ابتسم واختفى من شريط حلمي.
لكل حلم مسارات تحاول الإمساك بخيوط عش عنكبوتي يراوغ ريح الفناء، رؤى تتوهم الاقتراب من الواقع وخيانة الحقيقة وتدمير اليقين، ومع كل نفس بطيئة تفيد الاستمرار في الحياة، تتحرر شاشة الرؤية من قيود الذي أريد ولا أريد، تحتلها انزياحات مبعثرة فوق سطح المعيش، تصاحبها آهات لا واعية تخون هدنة العاجز وتُنْطِق صمت المكلوم، وومض بريق مؤقت يهديك فرحا هاربا من ساحة الخيبات، لذلك.. لا بد من مطاوعة ما لا نتحكم في مشيئته.. الحلم هذا، والغياب، والرحيل، والتيه في عوالم آمنت بالعيش فيها وضيعت الطريق.
انتقل الحلم لفضاء اعتدت تفاصيله المتسللة لجمجمتي من التليفزيون وصفحات التخاصم الاجتماعي ، وجدتني في قاعة مغلقة رفقة كائن مصلوب داخل بذلة عصرية ومشنوق بربطة عنق زرقاء، وخلف طاولة خشبية، وحش خبأ وجهه بلحية سائبة بشعة وتحتها جلباب حريري قصير وصندالة جلد مسروقة من أطلال واحات أخفتها رمال متحركة عمياء، وفي الوسط حسناء بابتسامة ذاعرة تمسك أوراقا كثيرة وتتلو مقدمة طللية عن أصالة الماضي الميت ورعونة الحاضر العاق قصبات الحنين المهجورة.
بعد التقديم الركيك، رأيت الملتحي الغليظ ينزل من سيارة دفع رباعية، بيده اليمنى سبحة خضراء وساعة ذهبية اللون، أسنانه المتباعدة تلاعب عود أرك. شفتاه مكتنزتان، جلبابه القصير يفضح ساقين تدربتا على الركض دون هدف، وسط شبان عابسين امتهنوا الحراسة الشخصية في مواكب مصطنعة، بسمل وحوقل، وولج استوديو شقة صغيرة فيها يتم التلاعب بالعقول وتخدير السذج.
سألته الحسناء المتبرجة عن حكم الشرع في مفاخضة الطفلة وتعنيف الزوجة والتعدد في القوارير، كلها حلال، قال وأضاف، وحرث النساء في جميع الفصول واجب شرعا لأنه يفرح الملائكة ويُجْزَى الذكر عليه بالدخول لجنات الحور الفاتنات، والمرأة التي تعصى الأوامر ، أكانت زوجة أو جارية أو خادمة، تضرب باللكمات وبالعصا الخارجة من الجنة، وإن لم ترجع عن رفضها للشرع مآلها الجحيم وبئس المصير.
حرك ذو البذلة العصرية رأسه موافقا فتوى الملتحي، التفت للمذيعة الجميلة، ركز النظر في صدرها المثير، تنهد وقاطع الفقيه، ونزيدك من روعة الشرع نقطة، قال.. لقد أثبتت التجارب السريرية في مختبرات شفط العقول أن مخ المرأة ناقص عن مخ الرجل، وبسبب النقص تعاني من موت الرغبة َوتحتاج للضرب والعنف حتى تشتعل حواسها وتكون مستعدة لإمتاع رجلها المحكوم بغريزة التناكح مع أي امرأة اشتهتها نفسه الأمارة بالتعدد، وفي ذلك فليتسابق المتسابقون.
انتفض الملتحي في مكانه، عبس وظهرت تجاعيد جبهته، ضرب بقوة خشب الطاولة، قال: «لا علاقة للشرع بما تقيأته مختبراتكم العلمانية، المرأة ليست ناقصة عقل، هي لعنة تشتهي القضاء على نزوات الرجل، لذلك وجب هزمها بامرأة أخرى، وحكمة الشرع تقول لا خير في رجل تحكمه امرأة تحيض وتتدنس ! «.
قادني شيطان العجب للتساؤل عن وجه الاختلاف بين اللحية والأمرد، شعرت أنهما متفقان على الحسناء للفوز بليلة صاخبة رفقة تضاريسها الشهية، استحضرت حقارة إعدام الشهيد، لا أحد احتج وعبر عن إدانته للخيانة العظمى، نظرت في عيني الملتحي، صرخت في وجهه، يا وغد، أمثالك هزمونا في الداخل، استسلموا لنزوات القضيب، تمسكوا بخرافاتهم، واغتالوا حارسة قبر الشهيد.
تشابكت الشطحات في الحلم، ازداد صراخي قوة، اختلطت الأصوات، كما لو أنني صرخت دون صوت، رأيت شفتي الملتحي تصفني بالمارق، وبتجاهل مقصود، تعود لمحاورة ذي البذلة العصرية.
وأنا أحاول ردهما عن غيهما، غضبت لما يقع، توترت أعصابي، سكنتني رغبة في صفع ولد الحرام المقطر، عجزت عن رفع يدي للأعلى، فجأة داهمتني حالة صحو، خرجت من الحلم مهزوما، حلت اليقظة بحكمتها الدائخة، انتبهت إلى السماعة التي تسد أذني اليمنى، حملقت في شاشة الهاتف، رأيت حلقة نقاش بثتها قناة تبيع الرقية وماء العين المقدسة، ضغطت على زر التعطيل وعدت للنوم المتقطع.


الكاتب : حسن برما

  

بتاريخ : 13/09/2024