يعتبر « شعر الملحون: الظاهرة ودلالاتها» دراسة أدبية نقدية تتبعت مسار تطور الشعر المغربي الملحون منذ نشأته إلى أن اكتمل نضجه. فماهو موضوع الكتاب؟ وماهي قيمته المعرفية والنقدية؟
يتألف الكتاب من جزءين: صدر الجزء الأول في دجنبر 2010، وتضمن أربعة فصول ومقدمة، وصدر الجزء الثاني سنة 2012، وجمع بين دفتيه خمسة أبواب هي: الوعي الشعري، أدب الملحون والمسألة اللغوية، الرؤية الشعرية في الملحون، ملحون الهامش، قضايا يطرحها الملحون، بالإضافة إلى خاتمة وخلاصات. وهو في الأصل أطروحة جامعية لنيل شهادة الدكتوراه في الآداب.
سعى الباحث في هذا الكتاب إلى نفض الغبار عن تراث مغربي أصيل ظهر في الساحة المغربية والعربية خلال القرن السادس الهجري كتطور إن لم نقل ثورة على الثقافة الرسمية التي عرفت في تلك الحقبة ركودا وجمودا لم تعد معه تلبي رغبات المتلقي المغربي ـ شأنها شأن السلطة الحاكمة أنذاك ـ لتفسح المجال أمام ثقافة ناشئة ترتبط بروح العصر وتعبر عن الحياة الاجتماعية والسياسية للإنسان المغربي في مختلف تمظهراتها، ليكون شعر الملحون بمثابة « ميثاق للوحدة يعيد التأسيس والبناء، وذلك على جميع المستويات… على صعد القيم والعواطف والمقاييس…»1.
إن المتأمل في كتاب بلكبير يجد أن مقصدية الباحث ترمي إلى محاولة كشف النسق المضمر لطبيعة المجتمع المغربي خلال العصور السابقة، انطلاقا من الملحون كظاهرة أدبية تحفل بقضايا سياسية واجتماعية لها أثرها الممتد في سيرورة الدولة المغربية. حيث تكدس المال والسلطة لدى طبقة اجتماعية الشيء الذي مكنها من الهيمنة المطلقة على باقي فئات المجتمع الذي استوطن الهامش. ومحاولة نشوء طبقة متوسطة من الحرفيين والتجار سعت إلى خلق التوازن داخل المجتمع من خلال نسج علاقات تواصل ثقافية واجتماعية بين الطبقة الحاكمة والطبقة المحكومة.
مثل الطبقة الوسطى فئة الشعراء أصحاب الكلمة الفصل الذين أرادوا نقل صورة المهمش عبر القصيدة. والمقصود بالمهمش هنا الطبقة الكادحة، بما في ذلك المرأة التي أعاد لها الملحون الاعتبار من خلال التغني بحسنها و إبراز مفاتن تضاريسها الجسدية، ونقل بعض من حكمها ومردداتها من قبيل « الموثبات» وهو شعر نسائي صرف تبدعه النساء خاصة تحريضا للذكور من أجل خوض الحروب والذَّوْدِ عن الحرمات، إضافة إلى الرباعيات/ العروبيات التي أنشدتها النسوة ولم تدون في الكنانيش، ومع ذلك وصل إلينا بعض منها في معرض حديث الشعراء عن المتغزل بهن من النساء كما هو الحال عند عبد القادرالعلمي الذي يقول في قصيدة «دَامِي شَرَّادَة»2:
قالت: ياهذا بعَّدْ عْلِيَّ لاَ تَضْحَى نكيدْ
سَلَّـــمْ لِرادَة خير لك لاَ تمْشِي مطرودْ
بالَكْ تتْمادى أَو يَغْويك لْسانك بنشيدْ
راني نشّادة والعْروبي عندِي مُوجُودْ
إلا أن هذا لم يمنع السلطة من احتواء الثقافة متمثلة في الشعراء وجعلهم في خدمتها متخذة إياهم منبرا إعلاميا يخمد لهيب الشعب المتوقد ويضعه تحت السيطرة، لقد اتخذ رجال السلطة من الملحون أداة فعالة لردم الفجوة أو الشرخ الحاصل بين الطبقة المتسلِّطة والطبقة المتَسلَّط عليها، حيث أدى الشعر دوره الأساس في تقليص الهوة من خلال تعداد خصال الملوك الحميدة في قصائد مدحية تظهر الصورة المثالية للممدوح وتحببه إلى الرعية، عن طريق ربط نسبه بالسلالة النبوية، والتعبير عن مظاهر تدينه ونقاء سريرته ويده الممدودة إلى المحرومين وحبه لهم، كل ذلك لكي تصير لدى الشعب قناعة أو عقيدة ثابتة بمشروعية حكم الممدوح(الدوغما).
وفي المقابل تخفي الوجه القبيح للحاكم حفاظا على استقرار مؤسسة الحكم، ومن أجل ذلك التمس الشعراء طريقا آخر لإفراغ الشحنات المكبوتة والحقيقة المدفونة في سرائرهم في قصائد رائعة تتغنى بالتناقض الحاصل في الطبيعة والذي يضفي عليها طابعا جماليا وفي موضوعات مثل «الخصام» و»الحرازيات «.
إن ثقافة بلكبير الموسوعية مكنته من الغوص في أدب الملحون إلى أبعد مدى والسعي جاهدا إلى إغناء الرصيد الثقافي للمتلقي والتأكيد على أدبية الملحون كظاهرة شعرية مغربية متفردة، الشيء الذي أدى إلى خلق نوع من اللاتوازن بين أبواب وفصول الكتاب من حيث الدفوعات الشكلية. أما من حيث المنهج، فلا يخفى تأثير المقاربة السوسيولوجية على ثقافة وفكر الباحث الذي يعتبر أن الثقافة ليست سوى انعكاس للواقع الاجتماعي، ونلمس هذا في جملة من المفاهيم السوسيولوجية التي أثثت فضاء الكتاب في جزءيه من قبيل: الطبقات الاجتماعية، الطبقة الوسطى، الصراع، الانعكاس، المجتمع، ملحون الهامش….
وفي الختام لايسعنا إلا أن ننوه بهذا المنتج الأدبي الذي يحتاج إلى دراسة نقدية عميقة وهذا ما نسعى إليه في دراسة لاحقة نقارن فيها بين هذا الكتاب وكتاب المجاطي «ظاهرة الشعر الحديث».
(Endnotes)
1 ـ عبد الصمد بلكبير، شعر الملحون، الظاهرة ودلالاتها، جزء1، مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء، ط1، 2010، ص:124.
2 ـ عبد القادر العلمي، ديوان الملحون، أكاديمية المملكة المغربية، الرباط 2009، ص:332.