شعرية الحزن في ديوان «تتمنع عني العبارة» للشاعرة مينة الأزهر

يتأسس الخطاب الشعري على قاعدة الخرق وانزياح اللغة عن بعدها التواصلي لبناء معاني خارج إطار المألوف والمتداول، وتكون العلاقة بين لغة الشعر والواقع أو المرجع علاقة نسبية وملتبسة مادامت تلك اللغة لا تحيل إلا على نفسها ولا تستوي معانيها إلا في بعدها النسقي، أي من خلال مستوياتها التركبية والدلالية والمعجمية والإيقاعية. ليس الشعر تعبيرا إنه تأسيس على حد تعبير أدونيس، تأسيس للتخييل وللعوالم الممكنة عبر المجاز والاستعارة في أفق بناء الصورة الشعرية، تلك الصورة التي يتقاطع عندها الملفوظ بالملحوظ؛ اللغوي والبصري، إنها لحظة مخاض عسير وصراع مرير بين قوة العقل وهواجس القلب، بعدها يكون توليد المعنى؛ ومعنى المعنى كما يقول عبد القاهر الجرجاني.
إن تأسيس لغة شعرية لا يكون منفصلا عن الذات الشاعرة وعن هواجسها ورواسبها الوجدانية والنفسية، لذلك تنأى لغة الشعر عن الإيضاح التعيين لتُصبح لغة رمز وإشارة، ولا يمكن فهم معنى الخطاب الشعري إلا عبر سيرورات الفهم والتأويل السياقي لكل الصور الجزئية والعلامات لأن المعنى الشعري ليس معطى جاهزا بقدر ما يكون بناء يتحقق عبر الاجتهاد والمكابدة تشبه إلى حد ما نفس المعاناة والمكابدة التي يعيشها الشاعر خلال توليف وتوليد المعاني حيث تُكلم اللغة نفسها كما يقول موريس بلانشو، لا شيء خارج اللغة والمعنى لا يتولد إلا من رحم الخطاب الشعري، ويصبح من حق كل متلقٍ لهذا الخطاب الشعري بناء وتأويل ما يناسبه من المعاني. ويجوز لنا في هذا المقام التساؤل عن الصورة الكلية التي تراءت لنا بعد قراءة ديوان الشاعرة «مينة الأزهر» «تتمنع عني العبارة» والذي يحمل قصيدتين مختلفتين على مستوى الحجم والدلالة.
ننطلق بداية من اعتبار «كل نص شعري هو حكاية أي رسالة تحكي صيرورة ذات» تلك الذات الحاضرة بقوة عبر صيغة ضمير المتكلم، انطلاقا من العنوان وعلى امتداد صفحات الديوان، وهو ما يجعلها بؤرة قادرة على استقطاب كل الصور الدلالية. لقد جاء العنوان إذن ليعلن عن وضعية الحصار والعجز والغربة كما تعيشها الذات بعد تمنع العبارة وانفلاتها، وتتحول لحظة فقد القول والتعبير إلى ما يشبه وضعية التحجر والموت الرمزي. بعد الإعلان عن تلك الوضعية يأتي المقطع الأول من مطلع القصيدة الأولى معللا أسباب هذا العجز عبر قول الشاعرة : «كل الخيبات تترصدني» (ص7)، ويتكرر ذكر هذا السباب في المقطع (18) من نفس القصيدة تقول فيه الشاعرة: « من كثرة الكبوات» (ص15)، وتعود لتقول في المقطع (40): «مثقلة بكوابيس التثبيط» (ص26). نلاحظ إذن أن الملفوظات الشعرية: الخيبات؛ الكبوات؛ الكوابيس جاءت في صيغة الجمع الدال على الكثرة، و الذي قد يدل التكرار والتوالي، التكرار المُفضي إلى توليد صور العجز وفقدان القدرة على أو القول، كما دلت على ذلك صيغة العنوان « تتمنع عني العبارة». هذا التمنع نستعير له من أحمد المعداوي مصطلح « الغربة في الكلمة».
هكذا تؤسس الشاعرة مسار خطابها الشعري بترسيم حدود تجربتها عبر وضعيتين متلازمتين ، وبين هاتين الوضعيتين تتولد مجموعة من الصور الشعرية الصغرى الدالة على الألم والمعاناة والبكاء والحرقة والحنين وغيرها من صور الجُرح والتي تتشاكل في إنتاج الصورة الدلالية الكلية للديوان والتي اصطلحنا عليها بشعرية الحزن، ويأخذ الحزن مجموعة من التجليات حيث نميز بين صورتين من صور الحزن:

1 ـ الحزن الداخلي:

نقصد بالحزن الداخلي ذلك الذي ينبع من الذات ليعود إليها، وغالبا ما ينجم عن الإحساس بالانكسار والهزيمة وتوالي الخيبات والنكبات، حينها تتولد مشاعر الحزن المفضي إلى تأجيج الرغبة في الموت، وغالبا ما تكون تلك الرغبة في الموت صادرة عن دوافع جوانية ملتهبة وتدميرية تقول الشاعرة:
بوزرها المتعب
أنفاسي المتقطعة
تنهش ما تبقى مني (ص14)
إن الإحساس بالحزن وما يتولد عنه من أحاسيس الألم والحرقة، يدفع الذات، أحيانا أخرى إلى سلطة قاهرة سادية، لا تحقق إشباع رغباتها إلا بعد الإمعان في تعذيب ذاتها تقول:
تدفق أيها الدمع ولا تكترث
فيضان الهمس
أفشى أسرار العين العنيدة (ص7)

2ـ الحزن الخارجي:

تتأرجح الذات بين زمنين، الماضي بخيباته وآلامه، والحاضر بإخفاقاته ومعاناته، لكن اللغة الشعرية تبقى محملة بظلال الأمل التي تطفو صورها في مواضع كثيرة من الديوان، حيث ينجلي سواد الرؤية، وإن كان الأمل بعيدا ومبطنا بنغمة حزن عميق:
على حواشي المساء
أُدر نسمات صدى
بم يفقد الصوت (87)
هكذا يعود صوت التحدي إلى نغمة الخطاب الشعري، حيث تستنفر الشاعرة ذخيرتها المعجمية المستمدة من بياض الحلم والخيال في محاولة لترميم صور ذاكرة الألم وتحقيق المصالحة مع المستقبل وتجاوز عثرات الزمن وخيباته:
في جلد
أحمل عمري
متجاهلة خيبات الوجود (ص86).
لقد عمدت الشاعرة إلى التعبير عن صورة الحزن وقوة تأثيره من خلال استعارة العديد من الصور الدالة على الحزن، كما نجذها تعتمد توظيف صيغة الفعل المضارع بشكل ملحوظ من مثل: تلفظ، يرسف، تنهش، يُطفئ، يحترق…..إن القوة الإنجازية لهذه الصيغة تكمن في دلالتها على الحاضر واستمرارية الحدث في الزمان، فالمضارع إذن من الصيغ الدالة على الديمومة، وكأن الذات عاشت الحزن في الماضي ولاتزال تعيشه في الحاضر ومازال الأثر مستمرا بدواخلها دون أن تنال منه مُسحة الأمل الباهت والنابت بين ظلال الحزن.


الكاتب : عبد الفتاح الفاقيد

  

بتاريخ : 08/02/2025