بداءة ، دعونا نتفق أن المكان مكون أساسي في الآلة الحكائية ، و”حقيقة معاشة ، و يؤثر في البشر بنفس القدر الذي يؤثرون فيه “ حسب سيزا قاسم ، وهذا يعني أن للمكان علاقة وثيقة بالإنسان بأحاسيسه وطبعه .
وسواء أكان واقعيا ماديا أو حلما ومتخيلا ، فهو العصب ، كما أن جماليته لا تتجسد بتسمية الأمكنة وتحديد أبعاده ، بل بواسطة التقنية الفنية ذات الصلة بالحوادث والشخصيات والرؤى .
مناسبة هذا الكلام ، عنوان المجموعة القصصية “ الشوارع “ للقاص المغربي محمد الشايب، والصادرة في طبعة أنيقة ورشيقة بدعم من وزارة الثقافة ضمن منشورات دار سليكي ، والذي يبدو عند النظر إليه أنه يحيل على فضاءات غير محدودة ، كما يحيل على الحياة الدائبة المتحركة .
وعليه ، يكون الشارع لولب غالبية القصص ، إنه الشارع المغربي بكائناته وأبعاده وجغرافيته وذاكرته ، التقطه القاص بعين ذكية وبأشكال مختلفة ، كما تناول الحديث عن أمكنة أخرى ، أحيانا لا يتعرف عليها وأحيانا أخرى يسميها بأسماء تحيل في العالم الخارجي على أمكنة حقيقية لدى القارئ.
يحضر الشارع بشكل لافت كما أشرنا في معظم قصص محمد الشايب، ويلعب دورا وظيفيا هاما وشغل حيزا بارزا في تفكير الكثير من شخصياته القصصية ،واهتماماتها وأخذ معاني ودلالات ورموزا متنوعة .
وعليه ، تصف قصص المجموعة الشارع بصفة عامة ، ولا تركز على شارع دون آخر، فهي شوارع تتشابه تختلط فيها الأصوات ، ولا فرق أن تحلم أو تمشي أو تجلس أو تتوقف. فهذه الشوارع كلها تدور في حلقة مفرغة وتائهة ومحبطة “ الشارع شوارع ، وأنا التائه في أمواجه المتلاطمة لم ، ولا ، ولن …. “ ص5
وفي جميع الأحوال ، ستجري في هذه الشوارع وقائع كثيرة ، وفيها ستعرش أحلام هذه المجموعة ، فلماذا اختار القاص يا ترى الشوارع موضوعة لمجموعته ؟ وبعبارة أخرى ، ما حكاية هذا العشق الذي يكنه سي محمد الشايب للشوارع ؟
هل لأن الشارع المغربي صعب وشرس ؟ صحراء المدينة وحياتها المتناقضة والحبلى بالمفارقات ؟ تعريتها ونشر غسيلها على حبال القصة ؟ خروج بالقصص من الغرف السرية والمعتمة ؟ أم هي قصة القصة ؟
تلك مجموعة أسئلة عنت لنا، وقد نمسك بأسرارها ، وقد تظل قابلة للبحث عن إجابات لها، لكل من حاول البحث عن مفتاح غرفتها السرية .
في أفق القبض على شارع الحرية ، وتساوقا مع هذا البحث المضني للراوي “ أدمى المسير قدمي ، ونال مني التعب، وهدني البحث ، ولم أعد قادرا على مواصلة الطريق “
هذا الحلم بشارع الحرية والنبش عنه في كل مواجد المدينة، ينتهي بتكسير أفق انتظار السارد :
“ ولما رأيت شرطيا ينظم حركة المرور، توجهت نحوه ، وسألته : أين يوجد شارع الحرية ؟
نظر إلي مليا ، ثم أجابني : لا يوجد في هذه المدينة شارع للحرية “ ص8
القاص يعتمد شارع الحرية وسيلة يخبئ فيها توقعه وحلمه، والقارئ من يتوصل لفك شفرة هذا الشارع الهارب، وهذا الحلم المغيب والبديل لشوارع اللعب التي ينأى السارد بنفسه أن يلطخه بألوانها “ رأيت الشارع يلعب، الشارع شوارع ، واللعب ألعاب، واللاعبون كثيرون ، كثيرون جدا . وأنا لا أتقن أي لون من اللعب ..ز، لا ، لا ، لا ..” ص 5
إنه الشارع الذي يتميز بسمة الحرية وتجعله مفضلا لدى السارد عن الشوارع الأخرى ، فيه يشعر بالحرية ، والمكان كما يقول يوري لوتمان، “يرتبط ارتباطاً لصيقاً بمفهوم الحرية، ومما
لا شك فيه أن من أكثر صور الحرية البدائية، هي حرية الحركة”.
في قصة “ شوارع الليل “يستعين السارد بالشوارع أمكنة محمولة بشحنات دلالية تصور الوضع الاجتماعي لعاهرة ، لتتحول هذه الفضاءات إلى شاهد إثبات عن تيهها وزفراتها :” تاهت في فيافي الليل ، واستحضرت شتى الصور، قلبت الصفحات، واستعرضت الوجوه وظلت تحترق ، وترسل الزفرات ، طوت الشارع كله ، ثم ولجت آخر” ص 58 .
بل يستعين الشاعر بالشارع ليكون نهاية لـ” محجوبة” ، ضحية لـ :” الليل أشرف على نهايته ،والمآذن تؤذن أذان الصبح ، والنوادي أغلقت أبوابها ، والفراغ يبسط سيطرته ، شعرت محجوبة بتعب قاهر، ودارت بها الأرض دورانا شديدا ، ثم أغمي عليها ، وسقطت “ ص59
وبذلك يجعل القاص شارعه القصصي شخصية تخبر القارئ عن طبيعته وعن الأشخاص الذين يقيمون فيه ، فالمكان يلعب كل الأدوار في العمل الحكائي، عبر اتخاذ الشارع وسيلة تعبير، أو تشخيص للواقع الاجتماعي، و الطبقي للشخوص. “
في قصة “ شارع الغريب” حياة دائبة، وطاقة على مد الخيال، لانعطافاته في الزمان والمكان، ولكونه بلا حدود ، ومن نماذج هذا الاختراق للحدود الجمركية للزمان والمكان نقرأ:” وحين استفقت هبت علي ريحك من جديد ، فانطلقت أقرأ إشارات الطريق ، وأبحث عن خرائط المدن ، أغمات ماتت ، ومراكش صارت قبلة للغواية وإشبيلية خلعت ألوانا ، ولبست أخرى “ ص 32.
من خلال هذا المقطع، تغدو الشوارع جسرا للعبور إلى غربة الإنسان ، وإلى الفكرة المشتركة ، إنه المكان المقيم في القاص والذي يحوي ذاكرة غربة شاعر في مكان غريب ، وحتى الشارع أصبح نسخة من هذه الغربة والغرائبية حتى .
وحين يمزج القاص بين الشارع والغرابة، فلأن الصور التي التقطها لهذا الشارع أرفقها بمشاهد عجائبية من قبيل “ رايات الخريف ترفرف ، الأشجار تخلع ملابسها، أنين الأرض ، غطيط أشجار التفاح ، جماجم الأيام ، ..” ، كما توحي هذه المشاهد الغرائبية ببحث مستمر ، وبرغبة ومخاض سوف ينجب ما هو جدير بالولادة والوصال :” تاه الغريب في تضاريس الحضور ، ثم لاح طيف اعتماد ، وفاح عطرها ، فرآها تجري نحوه ، ذهب الوهن ، فجرى بدوره، وذابا في عناق ساحر، لونته أمطار غزيرة “ ، فهذا يعني ، أن الشارع غريب ويوصل إلى الغرابة ، والتي تعني في النهاية قمة العنف الجسدي في على الإنسان – المعتمد ، والكتابة – القصيدة .
في نص “وقت متأخر جدا “ يتحول الشارع إلى ذكرى حين كان الشارع ربيعا ، نقرأ : رفعت عيني وسألت :
لماذا عدت الى الشارع المعلوم ؟
ولماذا عدت أنت ؟
كنت في زيارة قصيرة لبعض الأهل ..
وأنا عدت لأبحث عن بعض البصمات ثم ألوذ بالفرار … « ص 39
الشارع في هذا الشاهد النصي، يشكل في هذه الحالة، حلقة اتصال ، ويرتفع بالماضي إلى الأعلى، حيث يمزج القاص بين الشارع العمومي والذكرى، بين السارد وبين فدوى التي التقى بها في القطار الذي كان يقلهما معا بالصدفة .
من بين الأمكنة المتحركة التي استخدمها الكاتب في نفس القصة، نجد القطار الذي كان حافزا لتفصح فدوى عن عوالمها الماضية والمتجاورة مع السارد ، عالم مليء بالليل والحب ومواعيد الشارع العمومي :» البنت كأنها هي حين كان الشارع شارعا ، وكان العمر شبابا ، كأنه هي حين تسير في الشارع كأناشيد الربيع :» ص4.
وما يلاحظ هو النظرة النوستالجية الى ذلك الماضي وحميمية الذكرى لهذه العلاقة التي تميزت برومانسيتها المهيمنة التي افتقدت في الراهن .
وإلى جانب “ الشوارع “ كأمكنة مركزية ، تحضر مجموعة من الأمكنة داخل المسرود القصصي من قبيل الساحة ، المغارة ، والمقهى وغيرها من الأمكنة الحميمية وغير الحميمية .
هكذا ، تكتسي الساحة طابعا فوضويا ، وعلى ضوء هذا الطابع يمكن أن نقرأها فضاء مكتظا بـ” الضجيج ، اللغط ، البسملة الصلاة على النبي ، اللصوصية ، الغموض ، الوضوح ، التشرد ، المتخاصمين السب ، الشتم و …” ، هذا الكرنفال من التشابكات ، يعكس الفوضى والوضوح الذي ينغمس فيه المجتمع عينه .
كما يتكشف “ المقهى “ في قصة “ الضريبة “ عن وجهين ، فضاء حميمي بدليل أن العربي :” يتجمع حوله الأصدقاء ، ويتلذذون بالاستماع إلى أحاديثه ومستملحاته الكثيرة “ 63 ، حتى أن مالك المقهى كان يعفيه من ثمن فنجان القهوة لتنشيطه الزبائن .
ثم الفضاء المغيب من حياة العربي بعد غيابه المفاجئ وعودته بعد غلاف زمني مكتظا بالنسيان والمحو :” وسأله الأصدقاء عن غيابه، عن المقهى ، وعن مباريات كرة القدم ، فأجاب نسيت ، ثم أخذ يزداد ميلا يوما بعد يوم الى الصمت والعزلة “ ص65
إنها شجون الوقت وهموم الزمن المغربي التي تباغتنا من حيث لا نحتسب أحيانا، ودون سابق إنذار ولا إخبار .
ومن العناصر المكانية الثابتة والدالة في قصص “ الشوارع “، هناك المغارة في القصة المعنونة ب “محاولة هروب “، الهروب الخارج الذي من العطش والسحب والصمت والمطر العقيم باللجوء الى المغارة :” ثم دخلت المغارة وأخذت أتنقل في مناطق العتمة ، لكنها نفس ملامح الخارج ونفس نبرة العطش ورداءة الأحوال :” كانت القبور تمتد بلا حدود ، والرياح مزمجرة ، والمطر يطل من شرفة العطش ، ثم يبتعد “ ص73.
لكن ريثما يحقق الهروب مآربه حين التوغل في دواخل المغارة، لتتحول إلى مكان يجمع بين رؤيتين متقابلتين تنمي الموقف الدرامي، ونعني بها الموت والحياة :” وتحولت المغارة الى حديقة غناء ، أشرقت شمسها دافئة ، وزقزقت طيورها ، وفاحت أزهارها “ ص74 ، وبذلك تكون المغارة قد خففت عن نفسية السارد لارتباطه بكل ما يحل على البهجات والأحلام الوردية .
ولأن عمر النحلة قصير ، يعود السارد من حيث أتى ، لتنتشله من هذا الهروب الذهبي أياد خشنة : “لكن مر الوقت سريعا، تماما كخلسة المختلس ، فعاد الصوت يناديني ، ثم هطل اسمي غزيرا ، فانتشلتني أياد صلبة ، وأبعدتني عن الشجرة ، فتحولت المغارة الى مغارة مظلة “ ص74
وبذلك، نلاحظ أن عدم ثبوت المغارة على هيئة واحدة ، وتحولها من حال إلى حال ، يعني أن السارد يعيش تمزقات وانشطارات بين مدينة وشوارع من التراب ، وبين مغارة في الأحلام وأفضل من حديقة الأمراء.
وقبل أن نغلق ستارة هذه القراءة العاشقة لهذه الشوارع ، نستأذن سي محمد الشايب في الدخول إلى غرفته الجمالية والبلورية لنسجل الملاحظات التالية :
توسل قصص المجموعة باللغة الدارجة المغربية ونمثل لها ب :”
«عشرة في الرباعة»
« شكون خصو المرقة «
شكون خاصو الما « /
تسلل الوهج الشعري إلى البنية السردية لتكسير رتابة السرد وإبطاء حركيته ، حيث انتقال من دينامية الحدث ،إلى دينامية وجدانية ، ومن قبيل هذه الشعرنة للمنجز السردي، نقرأ في ص 42
“ اسمعي يا فدوى
واسكبي ما تبقى من كلام قبل أن يتوقف القطار ، هذه رحلتنا الأخيرة …
ليتنا لم نأت
ليتنا لم نلتق
ليتنا لم نبحث في شارعنا عن أعشاش اللقالق ، لا رياح الحب هبت ، لا زقزقة الطيور هطلت فتعالي نقل آخر الكلام ، ثم نحتمي بالغربة والصمت «
امتصاص جملة النصوص التي تمتح من الحقل الديني ، والتي تحيل على القرآن والشعر العربي ، لكن عبر الانزياح لكنها تظل محتفظة بمعناها من قبيل :
“ نهضت ، فتسلقت الأغصان ، وجنيت الفواكه ، ما ظهر منها ، وما بطن “
“ لكن الوقت مر سريعا ، تماما كخلسة المختلس “ .
وصفوة القول ، إن مجموعة “ الشوارع “ ، هي شوارع يمشي عليها كما تمشي عليها كائناته القصصية والورقية ، وأمكنة أثبت من خلالها المبدع محمد الشايب حرفيته وصنعته القصصية ، من خلال باقة من المجاميع القصصية هي على التوالي : “ دخان الرماد “ و”توازيات” و “ هيهات “ ، وإنها قصص حلوى ، وليس غريبا ان تنبت هذه الحلاوة القصصية من رحم قاص ينتمي إلى عاصمة قصب السكر بالغرب المغربي .
شعرية المكان في قصص « الشوارع « للمغربي محمد الشايب
الكاتب : عبدالله المتقي
بتاريخ : 28/09/2018