التقاء الشعر والفكر، قدرة مُبْهِرَة على الكشف والغوص في عوالم اللغة والفكر، والشعر، وباقي أجناس الفن والأدب، مهارة مُدَوِّخَة في إتيان الشعر بالفكر، والفكر بالشعر، بتركيز واستخلاص، وتقطير، مَرّةً، وَطَلْقٍ وفتح، وتفتيق، مَرَّةً أخرى. بهذا الصنيع، نفهم الفذاذة في الشعر، الذي لا نتردد في وسمه بالشعر الفكري الوجودي، بالشعر الشامل، وبالتجربة الباطنية التي مسعاها «تحديس الحس» بتعبير الشاعر السرغيني.
يتكئ السرغيني على الموروث، والعجيب الإنساني من الإنتاج المعرفي والروحي، فينشئه إنشاء، ويشكلنه سَبيكة شعرية – فكرية سائلة، وهو ما لا سبيل إليه من قِبَلِ الكثيرين. إذ كيف يسهل تطويع مقولات الفلسفة، ومدونات الفقه، والفكر، والثيولوجيا، والمنجز العلمي والتكنولوجي الإنساني؟ كيف يسهل هذا فَيَنْسَبِكُ ضمن ناظم شعري رفيع يخترق سُمْكَ العُدَّة والعتاد هذين، ما لم يُؤْتَ الشاعر الكتاب والحكمة في الإمساك بالكتاب، وأخذه بقوة؟
«تحت الأنقاض فوق الأنقاض»، مسارُ مَصِيرٍ إنساني يَنْبُتُ في الحطام، وسرعان ما يعلو على خرابه حيث يطفو معنى النهوض، والإنهاض بما يشي بجبروت الإنسان في ضَعفه، وضآلة كينونته على رغم سلسلة أعاجيبه، وتقدمه المبهر في خلال مسعاه الدؤوب إلى تخطي شرطه، ووجوده القصير على الأرض، إِمّا رَأينا إليه في فردانيته، أو وجوده الطويل الممتد متى ما تعاملنا معه بوصفه تجريدا، ورمزا، وروحا هيمى حَيَيَّة لا تَنِي تتناسل، وتتناسخ، وتحل في مجرى ومرمى الزمكان المتعدد – هنا ينكتب شعريا وسرديا، تاريخ الأشكال، وهيئات المنطق، وأنساق المتعاليات، والحقائق الكلية، والتفاصيل الجزئية وهي تفتق المعاني، وَتُصَوِرْنُ الأفكار.
«تحت الأنقاض «فوق الأنقاض» أيْكَةٌ من الأفكار والتعريفات والمقولات والحكمة. ودوحة تُجَفْجِفُ بالحفيف والثقيل اليانع، والناضج من الثمار العاليات والدانيات القطوف، والخفيف اللطيف من ذوات الجناح والأوراق الندية المُخْضَلَّة بالشعر. ومثل هذا الكتاب العجيب الغريب، كتبٌ شعرية أخرى للسرغيني، تندرج ضمن المنظور إياه، والرؤية ذاتها، والمبادهة الشعرية في صميم السياق الفكري، والمساق المعرفي، والعمق الفلسفي. ومن ثَمَّ، عَسُرَ شعر السرغيني على التصنيف. (تقرأ النص إن صبرت، فيمسك بتلابيبك لا يفارقك، ولا تقدر على مفارقته، ينفرد بك ويحيلك إلى جنة الإبداع الحق، كما يحيلك إلى جهلك لكي تواجهه- هذا الجهل – أو تتهم صاحب هذا الشعر، بالصعوبة والغموض، لتؤثر السلامة، مستنيما إلى التبرير الضحل والساذج، وتتهم صاحبه بالصعوبة، وتستريح من مواجهة عواصف رعود الإبداع الحق؟).
ويكاد كتاب: «تحت الأنقاض «فوق الأنقاض»، يكون توسعة، وتكملة لعمله الشعري، الأسبق : «من أعلى قمم الاحتيال»، ما دام أن التيمة المحورية التي اشتغل عليها النص هناك، هي ما يشتغل بها النص هنا : أنقاض – شظايا- أشتات – فتيت- مِزَق- حطام، بقايا أشياء- انكسارات. كل ذلك توصيف ترادفي وإردافي يشي بما طال المكان والفضاء والروح، من خراب وهدم ودمار، وردم، وطمس لمعالم تاريخية وحضارية، لا تزال موشومة في الذاكرة، وفي الوجدان.
فهذا العمل الشعري الجبار، يتموقع بين حجرين «رشيدين» : حجرٍ تَحْتِي تأتي منه أصوات جُمُوعٍ تبكي، ونشيجُ تاريخ مغربي داسه المُرَابون، وسماسرة الأحقاب، والنصابون. وحجر مُتَبَدٍّ مرتهن الآن وَعْدًا، لِنَاهبي الثروات بالمعاني جميعها.
عمل شعري أشبه ما يكون بدغل غابوي ملتف وكثيف، غِنًى مُتْرَعٌ، مِمْرَاح، يقدم بين أيدينا المعرفة البشرية، مصبوبة في وعاء شعري أخاذ ومدوخ، وآنية مستطرقة، وغير مستطرقة. منتظم ضمن نسق فكري، حي، متموج، متماسك ومتوتر في نفس الآن. إنها تجربة تذكر بتجربة أدونيس من جهة ضئيلة، لكنها تذكر –بقوة- بتجربة الشاعر التصـويري الكبير: إزرا باوند EZRA Pound، وتجربة الشاعر المدجج بالعناصر: سان جـون برس Perse المحاكاة السافرة، والباروديا : Parodie، والمفارقة المثيرة: Le Paradoxal، تستخدم في كثير من مفاصل، وتضاعيف المتن السرغيني، كأداة قلب والتفات بالمعنى البلاغي، وكَمَمَرٍّ مضيء وسط سماكة اللغة وهي تتنامى شعريا وفكريا، وطريق مسعفة لمواصلة السير وسط العذابات، والأحزان البشرية التي تتوارى رويدا، رويدا، خلف الأمل الرَيَّان المتلامح في المفكر فيه، المُرْجإ إلى كتابة أخرى.. إلى خيوط فجر آت.
تَهَيَّبْتُ – دوما- الاقتراب من «كتاب» السرغيني، المخبوء والمستور بين الظل والشمس، حتى لا يحرقني، ولا يُرِينِي فَهَاهتي وَعَيِّي وجهلي.
تهيبت عُمْرانه اللغوي، وشوكه المعرفي المستكن في قطيفة الإلماع الشعوري، والدفق الإحساسي، المدفون في طيات فِرَاءٍ لِجِرَاءِ نمور بيضاء، وفهود رقطاء، ولبؤات صهباء، تذرع الاستوائيات، والهضاب الزرقاء، والمنابع الثلجية، والضفاف المخضرة، في أقصى القطب والجغرافيا، ومنتهى الوهاد والقمم. لم يكن موطوءا –أبدا- عمل السرغيني الشعري، أتحدث عن عمله «بالجمع»، بدءا من : «بحار جبل قاف» إلى.. «الكائن السبإي» إلى «وجدتك في هذا الأرخيبل» إلى : «من فعل هذا بجماجكم»، إلى : «احتياطي العاج» إلى «من أعلى قم الاحتيال» إلى: «وصايا مَامُوثْ لم ينقرض» إلى: «تحت الأنقاض.. فوق الأنقاض»، كانت –دوما- نبعا ثريا، فياضا، يزركش الشعر بمطلقيات أخرى، ومؤثثات حَافّة تسنده، وتنشره، وتوسع حَدَقَاتِهِ. فكأن الشعر في شرعة السرغيني، قاصر إذا عومل ضمن حده التجنيسي، وخطوطه المرسومة، و»حذائه الصيني»، كما تعاور على ذلك، وكرسته أحقاب، وممارسات، وتقاليد عجلى ومركوزة. فهو يسنده ليعطيه ما فصل عنه، ويوصله بما كان له، وما ينبغي أن يعاد ويستعاد.
ولعل في صنيع أبي تمام، وشيخ المعرة، بعضا من هذا الفهم، وَنَزْرًا من هذا المأتى على رغم بقائهما رهينيْ محبس العامود، وسجيني جزمة الوزن والعروض، ولنا في ما أتاه ويأتيه أدونيس، وأنجزه محمد عفيفي مطر، وبدر الديب، تضمينا للتلاقي والتقاطع، مع الاحتراس من التعميم، والتشريك.
وفاء الشاعر الرائد محمد السرغيني، للشعرية بمفهومها الكوني العميق، الشعرية التي تتصاهر فيها الرؤى جميعها منضفرة بالمواجع والآلام الإنسانية، ومنشبكة بمديح الإنسان في قوته، وفتوحاته، وفي ضآلته وهشاشة أيضا. وهي الشعرية –استطرادا- ذات الخطاب المتكثر، واللغات المادية واللامادية العديدة المرتبطة بشجرة أنساب مُورِقَة، وممتدة، والمتماهية بجذع تلك الشجرة، الضخم، الوسيع العريض، الذي تنسرب في أليافه، وخلاياه، وشرايينه، ولحائه، أنساغ الكد الإنساني الذي بنى عصرا في إثر عصر، صرح الحضارة الإنسانية المنيف والشامخ.
وفاء السرغيني لجماع الشعرية تلك، بالاحتضان، والإيراق والاستغراق، والاستنباط، والتوليد، والتعهد، والتعميد، رسما للتشييد، وبلورة لجهد ذهني وفكري، وانبثاق شعري، هو ما حقق له ما حقق، وأوفى صنيعه الشعري الخلاق على الذروة، حتى بات اختراقه القرائي، ومراودته العاشقة، أو المخادعة المترصدة، مَشَقة ضَنْكَى، وسعيا يَعْيا بحاطب ليل، أو عاجر مستعجل، أو ظاميء متلهف، أو «واحاتي» مصادر على ماء طوع اليد، ونخيل وارف بعد الكثيب.
وفاء واحتفاء الشاعر بالشعر ليس كمثله احتفاء :
[متى كان الشعر وصيفا للغه وهو تاجها
متى كان الشعر رأس يتيم بين يدي حلاق غِرّ؟
هو خلاصة ما في القارات والإيالات والأصقاع
من السحاب والغيث والجدب والأجرام المجهولة.
بطاقة تعريف شخصية وسِجِّل لأرومة الإنسان]
(وصايا مَا مُوثْ لم ينقرض)
وفي فقرة شعرية أخرى من نفس الكتاب:
[للتاريخ غنائية الحكي والمحكي،
ولهذه الغنائية صلاحية التدخل
بين المشاغب والمهادن.
المقطعات أناشيد
والأناشيد فقرات
والفقرات لهاث
واللهاث باقات
والباقات مقاطع
والمقاطع عشاريات
الطقس الفردوسي بارد
والجحيمي ملهتب
والمطهري معتدل ..
أما الشعر فوحده المتدفق].
لا يمكن، بحال، أن نفهم شعر محمد السرغيني، والفوز بلذة فيه ومنه، واختلاس مسرب إلى عين زرقاء ترقرق تحت رموشها السوداء الوطفاء الساحرة، فراشات من ضوء، وإلى صفصافة عاشقة حانية، يهدهدها نشيد متوار بين الأوراق، لا يمكن فتح مسرب فيه – كما أقول- إلا بمصاحبة الموتى والأحياء الذين يَصْخَبُونَ في دارته الشعرية، وقراءتهم –بالحتم- أو قراءة بعضهم في الأقل.
غير المدجج بسلاح العلم والمعرفة والشعر والموسيقا، والتشكيل، يَقْصُرُ به حَالُه، ويزري به جهله، ويقهقه في وجهه شبحٌ زَيَّنَ له وَهْمَ أَنَّ ما يقرأ من شعر للسرغيني، هو مجرد مُعَميات وطلاسم، وَأَحَاجٍ، وخطوط زَنَّاتية، وكبريت أحمر، ورمل في أصقاع كندا، ومعنى هارب، مهرول دومًا كحياتنا على الأرض.
سلاح الفتح يُنْبِيكَ أن الشاعر رَحَّالَةٌ عملاق خلال الدهور والعصور، والأحقاب، والأزمنة، خلال الجغرافيات والأراضين، والسلالات، والأنساب والأحساب، والشجرات الآدمية. إنها «رسالة الغفران» قشيبة جديدة، متحالفة مع صنيع المعري العظيم، فيما هي متخالفة ومحلقة بعيدا عنها، طالما أنها تتوسل بالتحولات الشعرية، وروح العصر الجديد، ونبض القرن والدماغ، والألسنيات، والذكاء الاصطناعي الراهن، وإنها «رسالة التوابع والزوابع» لابن شهيد الأندلسي، منقلبة ومبتدعة، ومفارقة. تماما، تبصمها عبقرية صاحب، ومصفف، ومشذب، ومخترع الذي هو السرغيني، وهي «كوميديا» دانتي أليغوري، و»كوميديا» بالزاك»، سوى أنها تغوص عميقا، وتنزل دفينا إلى قاع شعري وفكري صاغه السرغيني شاعرا، وعالما، وفقيها، ولغويا، وقارئا من طراز رفيع، طراز قد لا يُمَاثله طراز.
في تجربة السرغيني الشعرية الشامخة، الأليمة واللذيذة في آن، يحضر هِيرُودُوتْ، شيخ المؤرخين طُرًّا، وملاحم الإغريق العتيدة، وفرجيل، وَأوفيدْ، والكتاب المقدس بعهديه: القديم والجديد، ومقالب «الصَّدُّوقيين» و»الفِرِّيسيين» اليهود، والأساطير، والمتن الخرافي، وشعراء العصور واللغات، والصوفية، والفلاسفة، من مِلْتُونْ والمعري وابن عربي، وأبي حيان التوحيدي، وابن سبعين. كما يحضر التشكيليون والموسيقيون والمغنون العظام، من كل دوحة ونسب. وتحضر العلوم المختلفة من طب وهندسة، وآلة، وهيئة، وفلك، ورياضيات، وتنجيم، وكيمياء وفيزياء، وسحر، ومخترعات قديمة وحديثة، والجوامع والصوامع، والأبواب والجسور، والمدافن والمقابر.
في تجربة السرغيني الجميلة والجليلة، يحضر الشعر مفكرا، والفكر مفكرا ومشعرنا، ومحافل السرود المختلفة، وتحضر – بشكل لافت ومقصود- السخرية كأَهْزَإ ما يكون، وأنبل وأندر ما يكون، تحضر لِلتَّنَدُّرِ، وكسر السياق اللغوي اللاهث، إذ تتيح التقاط الأنفاس، ورفع الألم بالضحك، فيما هي تزرع الحكمة الوارفة في أعطاف وثنيات البنيان الشعري. ويحرص الشاعر – في أثناء ذلك- على تقويس سخرياته، و»مَسْخَرَاتِه»، بوصفها واحاتٍ ومحطات استراحة، ونقط استئناف، والتفات. فالتقويسات حواش خادعة، مندسة ومدسوسة في تضاعيف الكلام الشعري، تعمل على تفتيق الدلالة، وتوسيع المعنى، وقد تُعْمِيه وتطمسه قصدا وترصدا. بيد أن التقويسات متون، متون قائمة على وجازتها، وخلاصاتها المكثفة. والأمثلة على هذا أكثر من أن نحيط بها؛ فهي تسري، وتتخلل جميع كتبه الشعرية. منها تمثيلا:
(لعنت شجرة الدفلى، وبوركت زُهُورُها)
(سكان الأضرحة لا يهاجرون)
(للساكن من الذكاء نصف حق ما للمتحرك من الغباء)
(ما جدوى علامات المرور في ليل سديمي)
(Il s’agit là d’une irrigation panachée)
(الزنبور واسطة بين الوجود والعدم)
(ثَمَّتَ من يكتب دون قفازين)
(ثمَّتَ من يلبس التاج ويخلع القناع)
(الشمس التي لا سوابق لها، قطعة قصدير)
(كم هو لذيذ تردد الميت على متاجر قطع الغيار)
لا يؤثث الشاعر رفوف عمارته الشعرية، بهذه الحكم والفصوص والأمثال الشعرية التي تستبطن السخرية المريرة، وتستهدف الإضحاك والتموقف حُيال عِلَلٍ وتموضعات إنسانية مثيرة، بغاية الإراحة والاستراحة، والإضافة النافلة، بل بغاية إمداد السرود الشعرية بِقُفْلٍ يجمع «شتاتها»، وتَفَتُتَّها، هل يكون قفل العفة والمعرفة؟ -، وبغاية إضفاء المعنى على البنيان الشعري وهو يتصاعد طابوقة فوق طابوقة، ما يباعد الاقتراب، وينأى باللحاق والسيطرة –من ثم- على الإيقاع العام للنص الشعري، بوصف الإيقاع دالا أكبر، ومتعددا، أي أن وضع «أسورة» ذهبية وماسية ضمن النص، في وسطه أو خاتمته، من شأنها أن تبئر الدلالة، وتعمل – بهذا القدر أو ذاك – على إضاءة الفكرة التي تَنْسَرِدُ شعريا بين يدي النص، بين يدي القارئ.
العالم- في منظور السرغيني- على عظمته، ضئيل، والكون على وساعته ضيق، والأرض على امتدادها، أو لولبيتها العظيمة، إسفنجة تَنْعَجِنُ في يد الزيات، إذ يختطفها –بمهارة صقر- ويطفئها في «جفنة» زيت. والإنسان عابر سبيل ميت ما دام سيموت، عقباه التحلل، و التذرر، والهباء، لكنه بهي في هبائه، عسيرٌ على السهل، مُحَاذٍ للتل، قريب من الجبل، أرضي وسماوي معا، طائر في الأجواز، عالق بالمجرات البعيدة، ذاهب وآيبٌ خلال العصور، ومشدود – على رغم كل هذا- إلى السفح، والوتد، والأسباب المهترئة، والوضاعة، والأنانية المقيتة. مشدود – بكلمة واحدة- : إلى الطين والوحل.
بِيَدِ الشعر لا بِيَدِ الحاكم، ولا القاتل، ولا المُرابي، أمْرُ الأرض والإنسان. بيد الشعر ما يجعل الإقامة محبوبة ومرغوبة، بيده ما يكشف عن مسدس العالم المخفي، ونصله الصديء في الغمد العتيق، بالإعلان عن المخفي ذاك، والمخبوء في الزّنار والحزام، من خلال رش الضوء، والحلم، والأمل بين جنبات الكون. ومن خلال تأبيد الخضرة وسط الحطام، ورفع اللسان بالنشيد والتسبيح، والهتاف للحياة.
يقول الشاعر في لازمة بديعة حكيمة، تكررت داخل إحدى نصوصه الشعرية، بكتابه : «وصايا مَا مُوثْ لم ينقرض» :
-[لا يكتشف تُرَّهات هذا العالم غير الشعر]
لكن، إذا كان:
الكاتب مزور
القارئ مزور
القراءة مزاولة تزوير
إن كان هذا الفعل الثلاثي مُرابيًا
فلابد من تلقيحه بأنزيمات صناعية
تعويضا عن عبثية المكتوب والمقروء.
مما يعني – في تقديري- ليس غير استثارة الآدمية الحق، واستفزاز الذائقة الطبيعية والثقافية واستثارة الحس الجمالي في الإنسان موقفا وموقعا ومبادأة، وَدَيْدَنًا، وهدفا لاستحقاق التسمية، واستحقاق الإقامة على الأرض.
وليس التجاء الشاعر إلى اللغة الفرنسية، مدعاة للقول بقصور العربية عن التعبير، وعن استمداد من معينها، ما به يكشف عن خزائنه ومعارفه، وأحاسيسه. إن هو إلاَّ دَمْغٌ صَافٍ لِمَا تحدثنا عنه –قبلا- من كونه سخرية، واسترفادا، وتطعيما، وإغناء للمتن الشعري الحافل والوسيع. ما ضاق به اللسان العربي، وكيف يضيق به وهو أحد رواده وفرسانه؛ ما ضاق به هو الشعر في جذوره وغُصُونه، على نحو يجذبه إلى القاع البعيد، إلى الجرة الخرافية، وصلصال الخليقة، وليل الحضارات، وإلى وسائل مقاربة، وإتيان هذا الصنيع البديع الخلاق. ففي الأمر توسعة لفضاء الشعر، والقول الرفيع، وفي الأمر، إبراز وإظهار لخصوصيات الشعر من حيث هي كونيات وعموميات، ترابيات، ومتعاليات. إنه التسبيح الأعلى، والتمجيد الأسنى، والنشيد الأعظم في الملكوت لِلاَّهوت والنَّاسُوتْ، ما يجعلنا نقول بكل اطمئنان: إن الشعر، وهو يتوسل، للتعبير عن الدواخل والخوارج، اللُّغةَ، يعلو، ويسمو على اللغة، مثلما الطائرة تقطع الأجواز والفضاء بالإنسان على رغم أن الإنسان هو صانعها، ومخترعها، وَمُوجِدُها. يَنْوَجِدُ الشعر باللغة، وتنوجد به، بيد أنه يعلو، ويطير، ويخرج من شرنقتها، فتصبح ظمأى إليه، صديانة إلى مائه الزلال، وخضرته المُهْرَاقة، وألمه وأمله، واستشرافاته جميعا.
ولست أذكر – في حدود علمي- شاعرا عربيا قديما أو معاصرا، قام بفعلة السرغيني الجمالية و الفلسفية، أي بإنشاء الشعر إنشاء بلغة المتنبي كما بلغة موليير ضمن الديوان الواحد، والصفحات المتلاصقات المتوازيات، المصاقبات والمتساوقات نعلا بنعل.
وما أظن أن السرغيني يريد بذلك تعالمًا هو في غنى عنه، وأكبر منه بما لا يقاس. وما أظن أنه يبدع في الفرنسية تشريبا لمخياله، وتزكية لأيقونة تقيم بين الصوت والصدى، والإعلان والمحو، وتوسيعا لرأيه الشعري، وفكره الفلسفي، على أساس مِنْ تَحَدٍّ للشعراء المغاربة والعرب، وَمَكْرٍ بهم، وسباق في مضمار لم يدخله إلا هو ؟
فما يقوم به، يندرج في البحث المضني، المفكر فيه، عن فتوحات إضافية تُسْبِغُ على الشعرية المغربية تنوعا، وتحديثا، وأصالة، وعلى العربية رَفْدا وعمقا، وتخصيبا، وإنسانية، وثقافة مخصوصة.
وبناء عليه، فمحمد السرغيني، مدرسة قائمة الذات، ونهر شعري طَامٍ، عميق وهاديء في المظهر والمخبر، مصطخب ومتلاطم في الداخل والباطن، كثير من رذاذه، مرشوش وموجود، ملتمع، وَامِضٌ كساعد «كَالِيبْسُو» البض، يتخلل نصوص بعض شعرائنا المغاربة، مع أنهم يحاولون –عبثا- إخفاء ونكران ذلك التأثر.
أقام صرحه الشعري على نقطتين أساسيتين، فيما يقول، وفيما تؤكد القراءة والمقاربة لمتنه الشعري الباذخ، وهما: «عقلنة الشعر، وَوَجْدَنَةُ الفلسفة». هما محوران كبيران متعارضان –فيما يبدو- ولكن الشاعر أوتي من العلم والفكر والشعر، والثقافة الموسوعية، ما مَكَّنَهُ من إنجاح عملية المصاهرة، والموالجة، والتنافذ الحي المتحرك ذهابا وإيابا، وما مكنه –على مستوى آخر- من قول كلمته في: «هذا الطقس المتقلب بهدف مقاومة الاختلال الملحوظ في الحياة العامة، ما جعله يوثق العُرَى بين حواسه وحدوسه، فاتحا السبيل لملاحظة الحواس، وتفسير الحدوس، مشرعا كتابه على بوابة النبؤة، وسنبلة الأسطورة.
إشـارة :
-لا يُدَانِيهِ في منحى صهر الفكر في الشعر، والشعر في الفكر، سوى إزْرَا باوند، وأدونيس، ومحمد عفيفي مطر، مع اختلاف الأربعة في كيفيات التصوير، وميكانيزمات العجن والتبئير، والاستبصار اللغوي في تنسيبه الترابي- الأرضي، وانحلاله العناصري، ومتعلقاتها من ماء وهواء ونار، وفي مطلقه المتعالي، متوسلين (الشعراء الأربعة)، بالحدس والرؤيا والكشف.