صادق جلال العظم: التصوّر الديني الأصوليّ لمجرى التاريخ هو مجرى انحداريّ 1/2

يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين
وفقهاء الظلام.

 

 في السنوات الأخيرة يقوم صادق العظم بإعادة طباعة وترجمة كتبه القديمة وهو لم يكتُب مؤلفاً جديداً منذ سنوات، فهل لم يعد لدى العظم ما يقوله؟ هل قرّر المحارب القديم أن يستريح؟ هل تحرّر العظم من المستقبل؟

حسناً، سأبدأ من النقطة الأولى التي تقول فيها إنّ صادق العظم يقوم في السنوات الأخيرة بطباعة وترجمة كتبه القديمة. دعني أعلّق على هذا الجزء من سؤالكَ أو ملاحظتكَ بالقول: أعتقد أنّ انطباعك هذا غير دقيق؛ لأنّني لم أَعِد يوماً طباعة أيّ كتابٍ من كتبي، حتى أنه ليس من عادتي أن ارجع إلى أيّ كتاب من كتبي بعد انتهائي من نشره. لم أُصدر أبداً طبعة موسّعة أو منقّحة لكتابٍ سابقٍ لي، رغم أنّ لديّ طموحا لأن أفعل ذلك بالنسبة لكتاب “دفاعاً عن الماديّة والتاريخ”، ولم أنجح لحدّ الآن في ذلك. في الحقيقة إنّ الناشرين هم من يعيدون طباعة كتبي، وأحياناً دون علمي ودون أن أُسأَل.
طبعاً أنا لا أشتكي من ذلك، فأنا أريد لكتبي أن تنتشر وتوزّع وتُقرأ. فمثلاً لديّ كتابان هما “نقد الفكر الديني”، و”في الحبّ والحبّ العذريّ” لم ينقطعا من السوق منذ أن صدرا في نهاية عقد الستينات، ولا سيما منذ أن ردّت محكمة المطبوعات في بيروت سنة 1970 الدعوى المقامة ضدّ كتاب “نقد الفكر الديني”، وضدّ المؤلّف وضدّ ناشر الكتاب، أي دار الطليعة الممثّلة يومها بشخص مؤسّسها وصاحبها الدكتور بشير الداعوق. ورغم أنّ هذا الكتاب ممنوع في كلّ الدول العربية، باستثناء لبنان، وعلى الأرجح في معظم الدول الإسلامية كذلك، فهو متوفّر في كل هذه البلدان رغم المنع الرسميّ.
ولا أعرف بدقّة عدد الطبعات التي صدرت من هذا الكتاب، إذ أنّه مستمرّ منذ أربعين سنة حتى اليوم والناشر لا يزال هو نفسه، وما أن تكاد الطبعة تنفد حتى تقوم الدار بإعادة الطباعة من جديد، ودون علمي. أنا أعرف كذلك أنّ المكتبات وشبكات التوزيع تؤمّن هذا الكتاب، بطريقة أو بأخرى، في البلدان الممنوع فيها. كما أعرف أنّ الكتاب متوفّر مجاناً على الانترنت الآن. أمّا بالنسبة لكتاب “في الحبّ والحبّ العذريّ” فقد استمرّ طبع الكتاب كذلك ولكنّ الناشر تبدّل. كان نزار قباني هو أوّل من طبعه في دار النشر الخاصة به سنة 1968. في الواقع، كان ثاني أو ثالث كتاب يصدر عن دار نشر نزار قباني. كان نزار يُركّز، طبعاً، على طباعة شعره ودواوينه ولكنّ موضوع الحبّ أثار اهتمامه فطلب مني الكتاب فأعطيته إياه، ثم انتقل من ناشرٍ لآخر. نشرَته دار العودة في بيروت عدّة مرات وتقوم الآن دار المدى بعملية نشره وإعادة طباعته.
وإضافة إلى أنّ هذا الكتاب لم ينقطع من السوق منذ صدوره، فقد طبع ووزع مجاناً مع جريدة “البعث” السورية ومع جريدة “السفير” اللبنانية فاكتسب شعبية إضافية كبيرة. في كل هذه الحالات كنتُ نادراً ما أُسأل أو أن يؤخذ رأيي في إعادة طباعة كتبي وما زلت أتفاجأ بالكتاب بطبعة جديدة في السوق. إذن أنا لم أسعَ أبدا لإعادة طباعة مؤلفاتي من جديد، البعض من كتبي أُعيد طباعتها ثلاث أو أربع مرّات مثل “دراسات في الفلسفة الغربية الحديثة” و”ذهنية التحريم: سلمان رشدي وحقيقة الأدب” و”ما بعد ذهنية التحريم: قراءة “الآيات الشيطانية” ردّ وتعقيب”.

 اسمح لي أن أوضّح سؤالي إذن

تفضّل.

 أنا سعيد بإعادة طباعة كتبك السابقة، ولكنني أتساءل عن غياب الجديد…

انتظر، فأنا سآتي إلى هذا الموضوع. أمّا بصدد مسألة الترجمة التي سألتني عنها، فأنا نادراً ما عملتُ في مجال الترجمة، إذ ليس لديّ الجّلد والصبر على الترجمة. لكن صدرت لي دراسات مجموعة في كتب بلغات أجنبية كثيرة كالألمانية والهولندية والايطاليّة والفرنسية والنرويجية والسويدية والفارسية والتركية، لكن لم يصدر لي كتاب يجمع هذه الدراسات باللغة الانكليزية، مع أنّ معظمها مكتوب أصلا باللغة الانكليزية، وقد يكون السبب في ذلك أنه عندما يصدر كتاب لي بالألمانية أو الايطالية مثلاً، فإن الألمان أو الطليان هم الذين يُشرفون على الترجمة والتدقيق والمراجعة، وهكذا ارتاح أنا من هذا الهمّ. لكن في حال إعداد طبعة انجليزية فهذا يعني أنني أنا من سيشتغل عليها ولم يتوفّر لي الوقت بعد لأضع هذه المقالات والدراسات في كتاب واحد بالانجليزية، وسأسعى الآن إلى هذا الهدف وآمل أن أوفق في ذلك. فهناك بعض الناشرين في الولايات المتحدة وبريطانيا يلحّون عليّ لجمع دراساتي في كتاب بالانجليزية أسوةً باللغات الأوروبية الأخرى التي صدرت بها تلك الدراسات.
أعترف بأنني أصبحت أجد أن الجمع بين كل هذه المهام أمر صعباً. كنتُ قادراً أثناء انهماكي في التدريس، سواءً في جامعة دمشق أو في جامعات الغرب أو أثناء تدريسي في الجامعة الأميركية في بيروت، على الجمع بين مهام التدريس والعناية بالطلاب ومتابعتهم وبين مهمات البحث والكتابة والنشر بدون صعوبة كبيرة. الآن أجد أن الجمع بين الأمرين غدا أصعب بكثير. فأنا عندما أقوم بالتدريس أكون جادّاً جداً وأُعِدُ نفسي جيداً وأقابل الطلاب وأعتني بهم وصار هذا كله يأخذ مني الوقت الكثير ويتعبني ويُرهقني. فحين أقوم بالتدريس – كما افعل حالياً في جامعة برنستون – فإن طاقتي ووقتي المتاحان من اجل الكتابة يتقلّصان بمقدار كبير. بينما يُصبح حال التأليف والكتابة أفضل عندما أكون في مؤسسة مكرَّسة للبحث العلمي فقط كما كان عليه الحال، مثلاً، عندما كنتُ في مؤسسة الدراسات المتقدِّمة في هولندة أو في برلين أو في معهد ويلسون في واشنطن، حيث كنتُ متفرِّغاً للبحث والكتابة وإلقاء المحاضرات دون أعباء التدريس. في مثل هذه الحالات أستطيع أن أنتج بشكلٍ أفضل وهذان هما العاملان الحاسمان اللذان منعاني مؤخراً من إصدار كتاب جديد. عامل ثالث في هذه المسألة هو أنني كنتُ أقوم سابقاً بإعادة كتابة بحثٍ بالعربية كنتُ قد أصدرته سابقاً باللغة الانكليزية والعكس بالعكس. والأمر هنا ليس ترجمة وإنما إعادة كتابة الموضوع بالعربية كما حصل مثلاً في دراستي عن كتاب ادوارد سعيد “الاستشراق”. فقد كتبتها بالانجليزية أوّلاً ثم أعدتُ وضعها بالعربية تحت عنوان “الاستشراق والاستشراق معكوساً”. وأحيانا كان يحصل العكس. كنتُ أكتب موضوعاً بالعربية ثم أعيد كتابته بالانجليزية، ولكنني، كما قلتُ لكَ، صرتُ أشعر بالوهن في الإيفاء بهذه المهمة التي كنتُ أقوم بها في السابق بنجاح وراحة. فمثلاً دراستي حول سلمان رشدي صدرت أولاً بالانجليزية وبعدها بالعربية. أما الآن فإنني لم أعد أشعر بأنني قادر على إنجاز أعمال مشابهة بالسرعة المطلوبة. على سبيل المثال، دراستي حول 11 سبتمبر التي صدرت بالانجليزية تحت عنوان “الإسلام والإرهاب والغرب اليوم” لم أوفق بعد في عملية نقلها إلى العربية والآن أظن أنه فات الأوان على فعل ذلك. لقد تعبت و لا أقول عجزت، ولكنني صرتُ أحتاج إلى المزيد من الجهد والجّلد. واعترف بأنني لم أعد قادراً على العمل كما في السابق وللتقدم في السن حقه طبعاً. أما بالنسبة إلى سؤالك ما إذا كان المحارب القديم قد قرّر أن يستريح؟ فأنت تعرف بأنّه في اليوم السابع استراح، فلا بدّ من يومٍ سابع للاستراحة. هل جاء هذا اليوم أم لا؟ لا أعرف، ولا شكّ أنني أمنح نفسي إجازة الآن دون أن أكون قد حرّرت نفسي من المستقبل الّا جزئياً.


الكاتب : حاوره: خلدون النبواني

  

بتاريخ : 05/05/2021