يعد المفكر السوري الراحل صادق جلال العظم من أبرز المثقفين العرب. فقبل أكثر من 50 عاماً، وتحديداً عام 1969، كتب العظم كتابه «نقد الفكر الديني»، وأثار زوبعة قي المنطقة العربية. كما حوكم العظم وبُرئ؛ ولولا الصدفة، لكان مصيره كما مصائر المفكرين الأحرار الذين ضربوا جذور الفكر الغيبي كحسين مروة، ومهدي عامل، وفرج فودة، ممن طالتهم يد الغيبيين
وفقهاء الظلام.
صادق جلال العظم: لم أكن يوماً ماركسياً أرثوذوكسياً
إذا كان التقدّم يقرّبنا من التصور المادي ويبعدنا عن التصور الروحي، كيف تفسّر إذن استشراء ظاهرة الأصوليّة وعودة الدينيّ وسيادة الفكر الغيبيّ في زمننا المعاصر ومحاصرة السماء للأرض؟ كيف تفسر كيفية استثمار السلفيين والإرهابيين للتكنولوجيا في خدمة قضاياهم اللاهوتية والغيبية والإرهابية؟
لا أرى أية عودة جدية للديني في الفكر العلمي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو التاريخي أو القانوني المعاصر. حتى في الأدب والفنّ والشعر والحبّ والجمال والإنسانيات عموماً لا أرى مثل هذه العودة، بل على العكس أرى أنّ المنحى العامّ هو المزيد من الابتعاد عن الديني ومقولاته وتفسيراته وتعبيراته إلا بالمعنى الرمزيّ والأداتي والتراثي البحت للعبارة. عند اصطدام فيروس أنفلونزا الخنازير بموسم الحجّ إلى مكة، إنّ أحداً لم يفكر في مشكلة تفادي تفشّي الوباء أثناء الحجّ تفكيراً دينياً، بل كان التفكير كلّه، في تلك اللحظة الحاسمة، علمياً، طبياً، مادياً، عقلانياً وواقعياً دون أن يقيم أيّ وزن للمقولات والتصورات والتفسيرات الدينية المعروفة. هنا السماء لا تحاصر الأرض على حدّ تعبيرك، بل الذي يحدث هو أنه في لحظة الحقيقة كثيراً ما تُهمل الأرض السماء من أجل تحقيق مصالحها الأرضية. لهذا السبب أنتج التاريخ شيء اسمه الأحكام السلطانية التي لا تقيم وزناً حقيقياً للأحكام الشرعية إلا من باب المراعاة والمراوغة والممالئة.
أما بالنسبة لما ذكرته عن الظاهرة الأصوليّة وتوسّعها وعودة الديني فيها وعبرها، فهي ظاهرة تاريخية – سياسية- اجتماعية وليست ظاهرة دينية بالمعنى الدقيق للعبارة ولها أسبابها غير الدينية بالتأكيد وأنا لا أريد الدخول في شرح هذا الموضوع الآن إذ تعرف أنني عالجت الظاهرة في عدد من دراساتي ومؤلفاتي كما أدليت برأيي حول أسبابها وخلفياتها ومستقبلها ولا أعتقد أن بروز مثل هذه الظواهر الدينية الشعبوية والسياسية في أي مكان من العالم يؤثر في الموقع القوي للفكر العلمي المادي عالمياً أو في قوته التفسيرية للظواهر أو في أهمية تطبيقاته العملية والتكنولوجية في حياة الإنسان المعاصر أينما كان ومهما كان دينه أو لا دينه.
أخيرا لا أجد ما هو غريب في استخدام السلفيين والإرهابيين للتكنولوجيا في خدمة تصوراتهم اللاهوتية والغيبية وقضاياهم السلطوية والتسلطية. هذا شيء طبيعي، أي أن تستخدم ما هو متوفر ومتاح من أدوات وأسلحة وما إليه في خدمة أغراضك. وهم في ذلك لا يشذّون أبدا عمّا هو سائد منذ قرون في العالم الإسلامي كله تقريباً، أي استخدام الأدوات الحديثة والتكنولوجيا الحديثة والأسلحة الحديثة دون الاهتمام بامتلاك المنهجية المعرفية والعقلانية والعقلية التي أنتجت هذه الأدوات والتطبيقات. تعرف ان العالم الإسلامي لم ينتج معرفة علمية تذكر أن كان بالطبيعة أو بالمجتمع أو بالإنسان منذ حوالي خمسة قرون على أقلّ تقدير.
كان العظم يمثّل واحداً من أبرز أساتذة قسم الفلسفة في جامعة دمشق. أتذكّر- أنا الذي دخلت ذلك القسم في أواسط التسعينات – تلك الحالة من الأيديولوجية الماركسية بفقهها وشيوخها وكتبها المقدَّسة. ألا تعترف معي بأن الأيديولوجية قد مارست دوراً سلبياً في طريقة تعليم وتعلُّم الفلسفة عندنا؟ ألا ترى معني أنّ ماركس الذي دافعتَ عنه أفضل دفاع في كتابك المتماسك جداً “دفاعاً عن المادية والتاريخ” كان الشجرة التي حجبت عنكم وعنا الغابة؟
بالنسبة للماركسية فأنا لم أكن يوماً ماركسياً أرثوذوكسياً. بالعكس كنت أُتّهم في ماركسيتي من قِبَل الأرثوذكسيين والحزبيين الشيوعيين والكثير من اليساريين حولي بالليبرالية. لأنّ مسألة حرية الفكر والتعبير والبحث العلمي كانت مهمة جداً بالنسبة لي. ولأنني لم أكن أحمل على محمل الجدّ مجموعة الأكليشيهات والأجوبة الحاضرة مسبقاً التي تمّ اختزال التفكير الفلسفي والاجتماعي إليها خاصة في عملية التدريس أو بالأحرى التلقين التقدمي الجاهز في معظم الأحيان. كنت أشدّد دوماً على المنهج في التناول والتفسير والمعالجة مما يعني أنه على مستخدم المنهج أن يبحث بنفسه ويفكّر بنفسه ويصل إلى استنتاجاته بنفسه. لا اعتقد أنني تمكّنت من تحقيق الكثير على هذا الصعيد لأن حال الجوّ المسيطر بقوة وقتها والمدعوم سلطوياً كان كما وصفته من خلال تجربتك. إن جزءاً مما قدّمته الماركسية هو نقل المنهج العلمي بمعناه الواسع إلى حقول الاجتماع والاقتصاد وعلم النفس والفكر النقدي عموماً كما الدراسات الإنسانية. ذلك كله يعود بالأساس إلى الثورة العلمية في القرن السابع عشر وتطورها المستمر بلا توقف حتى يومنا هذا. غياب ذلك كله وحلول الملخصات الماركسية المدرسية محلّه وبأسلوب شبه قروسطي هو الذي مارس الدور السلبي الأكبر الذي لمسته أنت في عملية تعليم الفلسفة (وغير الفلسفة) وتعلّمها في الجامعة. بالنسبة للشيوخ الذين تشير إليهم – ومن حولهم المريدون- لم تكن الفلسفة والفكر عموماً، بما في ذلك الماركسية ذاتها، عندهم بحثاً حراً مفتوحاً على كل نقاش ومراجعة ونقد، بل أدوات أرادوا تسخيرها لخدمة “قضايانا الكبرى” بصورة أداتية فجّة جدّاً.
من تجربتي في التدريس في جامعة دمشق وفي قسم الفلسفة أجد أنه كانت هنالك أيديولوجيتان أعاقتا ما اعتبره الغرض من دراسة الفلسفة على مستوى الجامعة. أوّلا، الأيديولوجية العفوية السائدة التي تأتي من الخلفية الدينية والتي تعتبر أن التعليم والتدريس هو تلقين للحقيقة وليس بحثاً عنها أو هو تصديق لمجموعة من الحقائق المعطاة مسبقاً. إنّ مثل هذه الطريقة تشبه التدريس في كلية الشريعة والتعليم الديني عموماً. في قسم الفلسفة تغير المحتوى لكنّ الأسلوب بقي أسلوبا تلقينياً لا يعمل جدّياً على تربية عقل الطالب على السؤال والتساؤل والتنقيب والبحث والوصول بنفسه إلى قناعات ولو مرحلية، والطالب دائماً في وضع مرحليّ. ثانياً، أيديولوجيا غير عفوية مبنيّة حول الماركسية والفكرة الشيوعية ومنهما تمّ تحضيرها وتعليبها في أماكن أخرى مثل الاتحاد السوفييتي وألمانيا الشرقية ولاحقاً الصين، وتم استخدامها لتلقين الطلاب الفكر الفلسفي والماركسيّ تحديداً بدلاً من المنهج السقراطي العقلاني الحرّ، مثلاً، الذي يمتحن الأفكار والأطروحات والتعريفات الخ.. عبر الحوار والسؤال والتساؤل والإجابة ونقد الإجابة المفتوحة كلها دوماً على المزيد. وأعتقد أنّ هاتين الأيديولوجيتين هما المسؤولتان عن حجب الغابة وفقاً لما ذكرت في سؤالك. إنّ فصل الماركسية عن الفلسفة النقدية أو التوجّه النّقديّ في الفلسفة هو الذي حجب النقاش الجدّيّ، وحوَّل التدريس الفعليّ للفلسفة في جامعة دمشق إلى تلقين، وأرجو أنّي كنت أقلّ وقوعاً من غيري في هذا المطبّ كما أترك تقدير ذلك لطلابي ولمن درسوا تحت إشرافي ولا بدّ أنّك تعرف أنه كانت لي تحفظات كثيرة على طريقة تدريس الفلسفة في جامعة دمشق.