يقول ويليام ديورانت في كتابه «قصة الحضارة»: « تبدأ الحضارة التي تتألف من أربعة عناصر: الموارد الاقتصادية، النظم السياسية، التقاليد، الفنون والعلوم، وهي تبدأ حيث ينتهي الاضطراب والقلق لأنه إذا أمن الإنسان من الخوف، تحررت في نفسه دوافع التطلع وعوامل الإبداع والإنشاء».
يعد الخوف شعورا فطريا طبيعيا تجاه أماكن أو أحداث أو ظروف يمر منها الفرد، فيكون لحظتها بمثابة دفاع عن الذات بدافع غريزة البقاء الذي تعتبر هي والخوف محركين أساسيين للحياة. هذا الخوف يتم التعامل معه كحالات فردية، لكن حين يتحول الخوف الى سياسة عامة لها صناعها والقائمون عليها ، فإنه يصبح مجالا خصبا للاستثمار، وأداة لتحقيق مصالح فئات معينة أو مؤسسات اقتصادية أو سياسية توظف جميع إمكاناتها من أجل استدامته مادام قد تَملّكَ المجتمعَ .
يتحول الخوف في ظل هذه الشروط الى صناعة تجد تربتها الخصبة في الإحساس العام بعدم الاستقرار والتهديد الدائم لأمن الأفراد، ما دامت هذه الصناعة لا تتطلب رأسمالا ماديا أو تكلفة إنجاز لأن المادة الخام ونقصد بها هنا «الخوف» مجانية، وتدخل في الطبيعة البشرية ولا تحتاج من المؤسسات القائمة عليها إلا إلى تحريك الهواجس السلبية والمخاوف والقلق، خصوصا على المستقبل.
إن الفترات التي يسود فيها القلق الاجتماعي هي التي تجعل الإنسان ينقاد الى إرادات الآخرين وسلطتهم مقابل الشعور بالأمان. إنه خوف جماعي يضمن الامتثال، كما يقول الفيلسوف والكاتب برتراند راسل « الخوف الجمعي يحفز غريزة القطيع ويميل هذا الخوف الى إنتاج شراسة تجاه أولئك الذين لا يعتبرون أعضاء في القطيع «.
هذا الخوف الجمعي يغذيه ( الخوف من الفوضى التي قد تعقب الثورات، من الجرائم، من الهجرات، من الإرهاب…..) كما حدث في ليبيا ومصر بعد أحداث الربيع العربي. فكثيرا ما سمعنا ورأينا عبر وسائل الإعلام تصريحات لمواطنين يتحسرون على زمن مبارك والقذافي في ظل الفوضى والحروب أو إحكام القبضة الأمنية على الشعوب، حتى أصبح الخوف جزءا من سيكولوجية الانسان العربي ومن ثقافته أيضا، لأن مخاوفنا مركبة: مخاوف ناتجة عن موروث ثقافي، أو ذات بعد ديني أو سياسي.
تزدهر صناعة الخوف عندما يكبر الإحساس بالضياع وبانعدام الأمان وفقدان الثقة. فمؤسسات التعليم الخصوصي مثلا ارتفع الإقبال عليها بسبب الخوف من الفشل الدراسي وفقدان الثقة في مؤسسات التعليم العمومي، وهذه نتيجة منطقية لخطاب ساد في نهاية التسعينات في المغرب مؤداه فشل المدرسة العمومية، وكان المستفيد الأول من سيادة هذا الشعور بالخوف هو القطاع الخاص الذي ارتفعت استثماراته في هذا القطاع بشكل خيالي، بعيدا عن رقابة الضرائب.
التدين أيضا يكون أحيانا مظهرا من مظاهر هذا الخوف ولو غُلِّف بغاية التقرب الى الخالق والبحث عن سلام داخلي، إذ سرعان ما يُظهِر المتدين بعض السلوكات المتناقضة مع جوهر الدين، ما يؤكد أن هذا التدين الظاهري ما هو في الحقيقة إلا هروب من لحظات الخوف من المصير المجهول، والاصطفاف الى «الثلث الناجي».
الدعوات الى العودة الى أمجاد التاريخ والى التراث للاحتماء به، الالتجاء الى الدجل والشعوذة والأضرحة بين الفئات الشعبية لا يمكن تفسيرها أيضا إلا بدافع الخوف الذي يجعل وجدان هذه الفئات مستعدا لتقبل مثل هذه الممارسات وهو خوف يتعاظم كلما ضاق هامش الحرية.
الاستثمار في الأوبئة من طرف لوبيات ومختبرات الأدوية العالمية، أحد أوجه صناعة الخوف التي تغذيها الهيستيريا الجماعية التي تتولد عن الخوف من الموت.
تجارة الخوف والحروب تلتهم في الشرق والأوسط وإفريقيا مئات الملايير التي تذهب الى خزينة الدول المصنعة للأسلحة التي تعمل على تغذية الحروب والصراعت في العالم الثالث لتضمن بالتالي رواج صناعتها الحربية، فيما تلجأ هي إلى حل نزاعاتها عن طريق التفاوض: فأمريكا مثلا 50 في المائة من صفقات بيع أسلحتها موجهة لتسلح البلدان العربية، تليها بريطانيا وفرنسا وألمانيا، تسلحٌ موجه في الغالب نحو عدو وهمي تنتظره الشعوب بعد أن دفعها الخوف الى تحييد القضايا الجوهرية.
لا يمكن إغفال دور وسائل التواصل الاجتماعي في إشاعة الخوف ، وذلك بترويج الإشاعة والمعلومات الخاطئة التي يصعب أمامها على الانسان التحكم في انفعالاته الوجدانية، والتمييز بين الكاذب منها والصحيح. ولا تنتعش الإشاعة إلا في مجتمع تَغيب أو تُغيَّب فيه الحقائق لصالح الغموض والتشويش.