صيدلية الأفكار 12- الانتفاضات و الثورات لا تخبر عن نفسها

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

 

لا تعلم الانتفاضات و الثورات عن نفسها ، مثلما لا تخبر أحدا بحصولها . تلك ميزنها عن المسيرات و التظاهرات التي تتطلب حسب السلطات ترخيصا يحدد مكانها و زمانها و الجهة المسؤولة عنها ، و حسب الفاعلين إخبارا فقط بحكم أن الحق في الاحتجاج و التظاهر وارد في الدستور و مضمون من طرفه. ذاك لغزها المحير .لغز يتعلق فرعه الأول بكون الانتفاضة أو الثورة لا تكون ثورة أو انتفاضة في أصلها و شراراتها الأولى ، و فرعه الثاني يتعلق بصعوبة و عسر رد هذا الأصل إلى هذا السبب أو ذاك ، و فرعه الثالث يتعلق بالضبابية الكاملة أمام العين المحللة بين الحدث الأصلي المباشر و ما يلفه من مستترات و مضمرات في الفرد و الجماعة و الوضعية و التاريخ و المجال و الديموغرافيا و أنماط تشابكها في لحظة نشوء الحدث الأصلي و بين أنماط القطع معها لحظة تحول الحدث إلى انتفاضة .لنقرأ بلاغة الضبابية هته عند الباحث عبد الرحمان رشيق ، ضمن مؤلفة « المجتمع ضد الدولة «, يقول :
«سنحاول هنا أن نتابع مسلسل التكوّن المفاجئ لانفجار اجتماعي بالدار البيضاء لنفهم جيّدا أنّ الأمر لا يتعلق بتاتا، لا ب»انتفاضة الجوع»، ولا ب»انتفاضة الخبز»، كما تؤكّد بعض التحاليل المتسرّعة.
تزامَن قرار الحكومة بالزيادة في أسعار المواد الغذائية الأساسية (1981) مع التعبئة الاجتماعية للمركزيات النقابية التي أعلنت عن إضراب عام للاحتجاج بالضبط على هذا القرار. وقد خلق الإعلان عن الإضراب العام وضعا متوترا ومؤاتيا لاندلاع الانتفاضة.
في المدينة – الجديدة، غير بعيد عن مركز – المدينة، وتحديدا في حيّ بكثافة سكانية عالية، ونسيج اجتماعي مهمّش، وحيث هناك العديد من المساكن المهددة بالهدم، بدأ أطفال الحجارة في اتجاه الشرطة وكلابها المتواجدين في مختلف زوايا الشارع بغاية استفزازهم. وكان أن أصاب حجر كبير أحد الكلاب مُسبّبا له جروحا بليغة. وبعد مطاردة بوليسية، تجمّع وبسرعة، حشد من الشباب في زاوية من زوايا الحي بغاية السخرية من رجال السلطة. هكذا، انطلق الرشق بالحجارة في كلّ الاتجاهات. «
أطفال ينتشون بلعب الرشق بالحجارة ، لعب ناري بما أن موضوعه هم رجال سلطة مدججون بكلابهم … كان مؤداه (من دون أي ربط سببي) اندلاع انتفاضة يونيو 1981م بالبيضاء، و بعدها بكثير من المدن المغربية . البوعزيزي بائع متجول تعرض لتعنيف من طرف السلطة ، أقدم على حرق نفسه و كان مؤدى الحدث ثورة عارمة هرب تحت ضغطها الرئيس بنعلي … لم يكن هؤلاء الأطفال و كذا الشرطة موضوع رشقهم بالحجارة يعلمون ان انتفاضة ستحصل ، مثلما لم يكن البوعزيزي يعلم أن حرقه لنفسه سيطرد الرئيس من تونس و من دون عودة .لكن الانتفاضة حصلت بالمغرب و الثورة حدثت في تونس .ينعت عالم الاجتماع الايطالي فرانسيسكو ألبيروني ( مختص مميز في الحركات الاجتماعية بشهادة آلان تورين ) في كتابهGenesis ما يشابه رشق الأطفال للحجارة و حرق البوعزيزي لجسده ، من الأحداث الأصلية للثورات و الانتفاضات بلحظة الولادة و التشكل و النشوء و التكون l’état naissant. لحظة تتسم بكل ما قد يتصوره الباحث و قد لا يتصوره : فجائية و تلقائية ، شعورية و غير شعورية ، عاطفية و عقلانية ، حرمان و لعب ، إحباط و قوة ، «حكرة و انفجار، موضوعية و ذاتية ، تاريخية و نفسية ، فردية و جماعية … و اللغز الأكبر في هته السمات هي كيف تجتمع في لحظة صغيرة و تنفجر . لا أحد يستطيع تفسير ذلك و لو كان الفاعل أو الفاعلون أنفسهم . إنها توصف فيما بعد لكن بتأويل قريب أو بعيد أو مستبعد . لحظة الولادة هته لا يجب خلطها وصفيا و تحليليا و تفسيريا مع المولود (الانتفاضة أو الثورة ) لأن منطقهما مختلفان تماما على الرغم من تسلسلهما في الزمن .، مثلما لا يجب خلط المولود مع حياته الآتية (تغيير نظام ، أو إجباره على الإصلاح ، أو ثورة مضادة …) لأن منطق الانتفاضة و الثورة ، ليس هو منطق ما تفضي إليه .
انتفاضة 1981م ليست لعب أطفال ، و لعب الأطفال ليس انتفاضة 1981م ، و الإصلاحات التي جاءت بعدها ليست هي الانتفاضة . بين اللحظات قطائع و استمراريات مرئية و غير مرئية لا يجب على الباحث التسرع في الحكم عليها بالتسرع .


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 05/04/2023