الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .
مع حلول كل رمضان يعيد الجميع استعادة أسئلة رمضان السابق المتعلقة بالاستهلاك و ارتفاع درجاته لدى المغاربة ، مقابل غلاء الأسعار و قلة بعض المواد أو ندرة بعضها … رمضان هته السنة مميز من هته الناحية . فقد سبقته موجة حر زائدة في ارتفاع أثمنة المواد الاستهلاكية ، كانت الطماطم بطلتها الأسطورية . و تلاه تقرير بنك المغرب حول نسبة التضخم التي لم تعرف انخفاضا ينذر بعودة هته الأثمنة إلى حدودها المعقولة المتلائمة مع دخل أغلبية المواطنين . لكن و رغم كل ذاك يتزايد الإقبال على الاستهلاك كما و كيفا . يشبه الأمر لغزا يصعب فك حروفه و طلاسيمه . يتعامى الأطباء و تقنيو التغدية و الفقهاء عن تفكير سر اللغز و يتبادلون الأدوار في شرح ما هو نافع و ما هو مضر . يسند الفقهاء دعاواهم بأدلة طبية ، و يبادلهم الأطباء و تقنيو التغذية نفس المجاملة عبر سند دعاواهم بأدلة شرعية .
نعرف جميعا أن شهر رمضان شعيرة و طقس و فرض عين بالنسبة لكل المسلمين . إنه طقس روحي و تعبدي ، لكنه أيضا طقس اجتماعي جماعي و هو ما يشحنه بدرجات الإلزام و الإكراه الاجتماعية ،التي تفوق و تعلو على درجات إلزامية باقي الشعائر. إنه أيضا طقس احتفالي ، و خاصيته الاحتفالية تلك تظل محتجبة وراء خاصياته الأخرى على الرغم من أنها تشكل مفتاح اللغز و المفارقة .تمتلك الطقوس الاحتفالية ، و المحتضنة للبعد الاحتفالي منطقها الخاص في العلاقة مع الاستهلاك .لا يراعي اقتصاد الطقوس الاحتفالية منطق الاقتصاد السياسي بكل قواعده العامة : إنتاج و استهلاك ، ربح و خسارة ، مراكمة و ادخار… لأنه اقتصاد رمزي يغتني ليس بالأشياء و الأموال و لكن بما تدل عليه هته الأشياء وما يفوق طبيعتها المادية و مقاصدها الاقتصادية . مائدة رمضان لا تتغيي الأكل و الالتهام ، مثلما لا تقصد الفم و البطن ، لذلك عليها أن تشبه العروس التي تريد إسقاط العين في شبكة غوايتها . إنها مائدة العين ، و ليست مائدة الفم ، مائدة الرغبة و ليست مائدة الحاجة ، مائدة المختلط و ليست مائدة المنسجم و المتوازن ، مائدة الجماعة و ليست مائدة الفرد ، مائدة تتغير عليها و حولها مدلولات الأكل البيولوجية . داخل اقتصاد الحفل هنالك دائما فائض ما .فائض في الضحك و فائض في الكلام و فائض في العرض لا يهدم قاعدة العرض و الطلب الكلاسيكية في الاقتصاد السياسي ، مثلما لا يحترمها . هذا الفائض الحاضر و المرئي في كل شيء لا يخضع فقط لمبدأ الاحترام التي يراعيها كل طقس ، بل يرسي مبدأ الانتهاك أيضا . تحترم المواقيت والموانع ، لكن في الآن نفسه تنتهك حرمة الجوع و العطش و الصوم و الصيام و مطالب الزهد و القلة و سنن النوم …
مائدة رمضان ، مائدة الفائض ، لكنه ليس فقط فائض حلويات ومعروضات غذائية .. بل فائض التبادل . تبادل الكلام و الضحك و الحسرة والمناقشات حول الأثمنة و الأسعار و الأحباب و الجيران … أمر يجعلها أشبه بسوق صغير للتبادلات الرمزية و الكلامية . سوق يشغل فيه الكلام و الرمز و الاجتماع الثروة الأساسية . ألم يعتبر الأنثروبولوجي كلود ليفي ستراوس أن سر وجود البشرية بكل مؤسساتها الكبرى إنبنى على هذا النوع من التبادل : تبادل الحركات و القرابة و الوجبات و الهدايا و الزيارات التي يوجد تحتها و في سرها تبادل الكلام و الكلمات