صيدلية الأفكار -4- المؤسسة الاجتماعية للوجه و الصوت

الصيدلية أو الفارماكون ، بلغة الإغريق ، ابتكار عجيب لمعالجة السم بالسم (الترياق) .السم قاتل و شاف في الآن نفسه .و بما إنه الأساس الوجودي لكل صيدلية ، تكون الصيدلية بحكم أسها ذاك مفارقة . مفارقة يكثفها شعارها أو طوطمها . الثعبان القاتل بسمه الشافي طوطم الصيدليات و الصيادلة .إنه الرمز و المفارقة المركبة للتضاد الملغز ، و العارضة للعبة المظهر و الحقيقة ، و المجسدة لاقتصاد المعنى المرسل .
صيدليتنا الرمضانية سنعرض فيها أفكار ملغومة بكل مواصفات المفارقة . أفكار صغيرة ، لكنها غائرة في المعيش الثقافي و اليومي « للمغاربة « . أفكار قاتلة بسمها لكنها في الآن ذاته ترياق جماعي لتدبير أمن و سلامة العيش في اليومي .

أن يكون لك وجه يعني أن تكون مرئي اجتماعياvisible socialement داخل المجالات العامة ، و أن يكون لك صوت يعني أن تكون مرئي و مسموع اجتماعيا من طرف الأذن المجتمعية (دولة ، أحزاب ، نقابات ، تنظيمات مدنية ..). الوجه هو المؤسسة الاجتماعية للكرامة ، و الصوت المؤسسة الاجتماعية للحرية . و شرط حضورها المرئي و المسموع هو مقياس و شرط كل ديموقراطية . حينما لا يسمع صوتك تكون البنيات الاجتماعية للاستقبال قد قررت جعلك كائنا غير مرئي اجتماعيا invisible، و حينما يرفض المجال العام بكل فاعليه النظر في وجهك بوصفه مسكنا للانسانية و وجها لها ، فإنك تطرد و تقصى و تبعد من دوائر ضوء الفضاءات العمومية لتلج دائرة و سجن الاحتجاب الاجتماعي invisibilité sociale. الاحتجاب الاجتماعي ليس معطى طبيعي بل هو بناء اجتماعي . يكثف عالم الاجتماع الفرنسي « غيوم لوبلان « الأشكال التي رسختها المجتمعات لممارسة حجب بعض فئاتها الاجتماعية عن أنوار الظهور المرئي الفاعل و المشارك في الحيوات الاجتماعية في ثلاث : الموت و العبودية و تغييب النظر و الإدراك .يخفي الموت وجه المرء كلية عن النظر، مثلما يمحو تدريجيا هيأته الجسدية . الموت أمر طبيعي لكن خلق شروط نسيانه أمر اجتماعي . النسيان الجماعي أول شكل اجتماعي لحجب الفاعل الميت و جعله غير مرئي ضمن تاريخ الأموات . تحول العبودية وجود الكائن الإنساني إلى أداة أو دابة أو شيء . العمل شيء مهم في الحياة الإنسانية ، لكن التشييء شرط اجتماعي مبني و قصدي لتجريد فئات اجتماعية من وجودها الحي عبر نزع وجهها و صوتها ، و من ثم الرمي بها في دائرة من لا تتوفر فيهم شروط الظهور في كل المجالات الاجتماعية العامة و العمومية . صناعة النسيان الاجتماعي الجماعي وحذف الوجه و الصوت الاجتماعيين من رحم الكائن الإنساني آليات اجتماعية و ليست طبيعية لترسيخ invisibilité sociale.أما الشكل الثالث فهو قصدية عدم رؤيتك و إدراكك في الوجود الاجتماعي . إنه أخطر أشكال ممارسة الإقصاء و الإبعاد و التهميش الاجتماعي . « شكون أنت» ، « أنت نكرة» ، عبارات من بين أخرى تجول العلاقات الاجتماعية لتحول أفراد و فئات إلى نكرات مجهولة ، من دون هوية أو ملكات أو قدرات على ممارسة صوتها ورفع هامتها و وجهها . إن رؤية الآخر ليست شيئا فطريا ، بل إن الرؤية بأشملها ليست ملكة طبيعية ، بل معطى اجتماعي . لا نرى سوى ما تشكلت أعيننا اجتماعيا على رؤيته . صحيح نمتلك الأعين طبيعيا ، لكن ملكة الرؤيا أمر اجتماعي . الدرس الكبير في هذا السياق تقدمة شخصية « غريغورسامسا « ضمن رواية كافكا métamorphose . جسد غريغور تحول ،إلى كائن حيواني ، و على الرغم من أنه ظل يملك الصوت و اللغة و المشاعر ، لم يعد مرغوبا ، بل لم يعد مقربوه قادرين و راغبين في رؤيته . و الدرس الثاني تقدمه رواية « رالف إيليسون « l’homme invisible على لسان الراوي و هو يحكي عن sa propre invisibilité. فهو أسود البشرة و البيض لا يرغبون في رؤيته و رؤية وجهه، بل لا يرغبون في رؤية أي أسود . و طلبه لم يكن صعبا ، بل فقط أن يراه البيض كشخص أسود البشرة . تلك أمثلة صغيرة على كون رؤية الآخر قد تضع المرء بين حدي الاعتراف الاجتماعي بالوجه و الصوت أو العنصرية كأقصى الأشكال العنيفة و المتطرفة لفرض وضعية الاحتجاب الاجتماعي على الآخر.
خلاصة القول ، مقترح صيدلية الأفكار :فرض وضعية الاحتجاب الاجتماعي على الأفراد و الجماعات ، كانت إثنية أو جندرية أو عمرية أو لغوية أو ثقافية … بقدر ما يدمر الأساس الاجتماعي لمؤسسة الوجه و الصوت ، بقدر ما يهدد باختيار كل هؤلاء الأشكال الأكثر تطرفا و عنفا لممارسة حقهم في الظهور الكامل في المجالات العمومية .


الكاتب : نورالدين الزاهي

  

بتاريخ : 27/03/2023