لم أكن وزوجتي نود المكوث عند ابنتنا المقيمة بالديار الفرنسية، ونحن نشد الرحال لزيارتها في أواخر شهر فبراير 2020، أكثر من عشرين يوما، وأنا الملتزم في بداية أبريل الموالي بمعرض مختلف القياسات بالفضاء الفني لإحدى المؤسسات المصرفية بالرباط، وبمعرض آخر للقياسات الصغرى بالقنيطرة يندرج في إطار مشروع القصة والتشكيل الذي أشتغل عليه منذ مدة، والذي عنوانه «النظر في الوجه العزيز»، مشروع أعتبره تكريما لعميد القصة العزيز أحمد بوزفور. كنت قد أنهيت كل الأعمال التي ستعرض في المعرضين معا قبل حزم حقائب السفر…
ونحن على أهبة العودة إلى المغرب، فوجئنا بقرار إغلاق المطارات وإلغاء رحلتنا. هو الوباء اللعين، شل حركتنا وشل معها كل برامجنا المسطرة. قدر عاتي أربك العالم بأسره، لكنه لم يتمكن من شل قريحتي الإبداعية. اتخذت من غرفتي بمنزل ابنتي مرسما، اشتغلت بأبسط التكاليف، من مواد وأدوات وأسناد، أطلقت العنان لتلقائيتي فوجدتني منسابا كالحرير في تيمة كورونا بطريقة فنية مغايرة وغير مباشرة.
استسلم الجسد للقدر عكس الروح التي اتخذت من واقع الحال فضاء ملائما للانغماس في عالمي التشكيلي دون أي إزعاج، وطبعا لن أتنكر لهدوء مدينة فوميل الجميلة الواقعة جنوب فرنسا، تحديدا بين بوردو وتولوز، ولطبيعتها الخلابة التي كانت ملكا لي بمفردي وأنا أتجول بين فتنتها، إذ منحتني هي الأخرى القوة على الأمل والتنحي عن السوداوية في مقاربة الحياة ومقاربة ما أسعى لإبداعه .. فضاء نحا بي في اتجاه رواية «العمى» للكاتب البرتغالي الحاصل على جائزة نوبل سنة 1995 «جوزيه سارا ماغو»، التي يتحدث ضمنها عن وباء مفاجئ غامض يصيب إحدى المدن ليعيش أهلها في وضع مأساوي ملؤه الفوضى والذعر… رواية اعتمدت سرد واقع محاولة إنسان الاحتفاظ بإنسانيته مقابل انهيار القيم الأساسية للحضارة: «إن كنت تستطيع أن ترى فانظر، إن كنت تستطيع أن تنظر فراقب».
اتجاه مغاير انخرطت في استكشافه، أنا الذي أشتغل على البورتريه أو الوجه الذي أعتبره الهوية… ركزت على الأعين، ما ساقني إلى فكرة تكميمها، مسحتُها بالإتلاف عن طريق اللون والشكل والخط.
بالإضافة إلى اللوحات، اشتغلت على ألبومات الصور وحولتها إلى كتب فنية، بل حتى أكياس الدقيق والسكر والأطباق الورقية كان لها حظ في ما أوحت لي به ممارستي التشكيلية في ظل الظرفية السائدة والحجر. أفق تطلب مني التأمل بروية وعمق من كل دواخلي لأطرح أسئلة أرقتني بشدة حول الكائنات والموجودات، في محاولة لتلمس مخرج ممكن، يخدم تعبيريتي الإبداعية بعيدا عن الرتابة السلبية والمحاكاة السطحية؛ ربما لست أنا من طرحت هذه الأسئلة التي راودتني بشكل تلقائي ودون وعي مني أو ترتيب مسبق، خاصة على مستوى تيه الإنسانية وانغماسها في روتين الحياة اليومية، بدل العمل على بلورة العلاقة مع الكائنات بروح مفعمة بمكنون السريرة في صالح مستقبل البشرية جمعاء والكائنات والموجودات المحيطة بها…
بعد قضاء ستة أشهر، عدت إلى المغرب، بتراكم وانطلاقة أخرى مبتكرة، لكن بقدر ما تمت مراكمته من أعمال، تبقى الحاجة ملحة لعرض المنجز التشكيلي وإشراك المتلقي والمتتبع في مشاهدته والحكم عليه كمقترح صباغي جديد.
الأمل كبير في أن تنزاح غمة الجائحة وتنفك عزلتنا، وخاصة في أن تفتح الأروقة التشكيلية، لأن اللوحة مجرد سند وألوان وتكوينات وأشكال وتقاربات بين الضوء والعتمة إذا لم تصل إلى جمهورها المفترض. قدر وهل يُشكى القدر … ما الحزم إلا من صبر!
عام من العزلة 13- عبد الكريم الأزهر: قدر وهل يُشكى القدر
الكاتب : إعداد: حفيظة الفارسي
بتاريخ : 28/04/2021