ليست قرية «ماكوندو» التي كتب غارسيا ماركيز عن عقودها العشرة من العزلة في رائعته «مائة عام من العزلة».. إنها العالم وقد انتبذ ركنا قصيا من الحياة، يترقب ما وراء العاصفة. عام من عزلة موبوءة، لايزال العالم، يتفصد عرقا من حرارتها، يتحسس أعضاءه ويطمئن على سلامة الحياة داخل رئتيه.
يقال إن الأدباء أبناء العزلة الشرعيون، ففي عزلتهم يكتبون ما يرمم المبعثر، وما يجعل الإحساس متقدا يقظا بما حولنا.
اليوم، وبعد عام على الوباء نطرح على هؤلاء الأبناء سؤال: كيف استثمرتَ هذه العزلة؟ هل أوصلتك الى نقطة عميقة في الروح؟ هل كتبتَ بنضج وأنت مدفوع بقهرية اللحظة؟ هل حررتك العزلة؟ ( بيسوا: الحرية هي امتلاك إمكانية العزلة) سيأتيك الجواب على لسان الراحل محمود درويش: «نفعل ما يفعل السجناء وما يفعل العاطلون عن العمل
نربي الأمل».
لا أدري لماذا تحضرني واقعة سقوط جدار برلين، كلما أمعنت التفكير في جائحة كورونا، فهل من تناصٍ محتملٍ بين الواقعتين، ولو في مستوى السقوط المادي والرمزي؟ ألا تشكل الجائحة واقعة خراب وانهيار لجدران اليقين والارتياح المبالغ فيه؟ ألم تُفْضِ إلى إحداث هزات ورجات في منظومة القيم والمعتقدات والانتماءات؟ ذلكم ما أحدثه سقوط جدار برلين قبل ثلاثة عقود، وذلكم ما تفعله فينا الجائحة آنا، في ظل شموخ اللايقين واللامعنى. فما الذي سقط فينا، وانهدم بسبب هذا الفيروس التاجي؟ وما الذي انهار في أعماقنا واستحال خرابا ويبابا، في زمنية الحجر الصحي؟ وهل من إمكان لإعادة الترميم أو استئناف البناء في سياق الـ»ما بعد» والـ «عن بعد»؟
حتما هناك تناصات للمعنى والمبنى بين جدار برلين الذي هدته الإرادة السياسية، ومؤديات الحرب الباردة، وبين جدار اليقين الذي أهدتنا إياه العولمة السعيدة والحداثة المفرطة، والذي حطمته جائحة كورونا، مؤكدةً بأن النبوءات لم تصدق، وأن السقوط والخراب واللاجدوى، كلها باتت ممكنات للتفاوض مع واقع قاس ومؤلم، حيث الترقب أفقاً والضجر احتمالاً. طبعا لا شيء أقسى من الضجر، لا شيء أكثر وخزا وإيلاما من الخضوع لسلطان العادة، حيث التكرارية متناً للحضور والامتداد، وتحت مسمى جديد/قديم اسمه «الحجر الصحي»، حيث يكون على «إنسان الجائحة»، تدوير كل مفاهيم الحرية والإرادة والفعل والألم والمعاناة.
في ظل هذه «الإقامة الجبرية» التي ترتهن إلى المنع والتضبيط والمراقبة والعقاب، يختبر الإنسان معنى الحرمان من كَثيرِ حقوقٍ وطقوس وممارسات، ويتوجب عليه، تحت طائلة الجبر والإكراه، ألا يغادر رقعة جغرافية محدودة، وألا يمارس فعاليات كثيرة، وأن يتخلص من أجندة اليومي الموزعة بين العمل والترفيه وباقي الطقوس الحياتية، ما يقوده في النهاية، إلى الانحشار في زاوية ضيقة، تتكرر فيها الوقائع والأفعال، بنمطية و روتينية مثيرة للسأم. ذلك أن أصعب ما نعيشه اليوم، في ظل الجائحة، هو الخوف من فقدان شغف الحياة، والانتهاء إلى سجل «اللاَّأين» و»اللاَّمتى»، وفي جحيم مأزق «اللاَّمخرج» من ورطتنا الجماعية الكبرى.
لا بأس أن أعترف أن الجائحة كانت سببا في استكمال كتابي الموسوم ب «أنثروبولوجيا الحج الإسلامي: من التجربة الدينية إلى النقد المنفتح»، كما أنها كانت سببا رئيسا في الانتقال إلى التدريس عن بعد، وتمكين طلبتي في الإجازة والماستر والدكتوراه، من عديد محاضرات ولقاءات تكوينية، أسعفتني كثيرا في تطوير مهاراتي المعلوماتية، وتوسيع وتنويع آفاق اشتغالي الأكاديمية والبيداغوجية. كان خيار التداوي بالحرف والسؤال، هو الأسلوب الأنجح للتفاوض مع الحجر والجائحة، قراءة وكتابة وبحثا عن المعنى، وهروبا من الحجر والضجر.
الفراغ قاس ومبعثر والضجر الذي يتحدر منه، أكثر قسوة وإرباكا، إنه يعيدنا إلى الحيرة الكبرى، حيث اللايقين أفقا واللاجدوى موئلا. ولهذا لم يكن الضجر لينسحب من نقاشات الفلاسفة والأدباء، فقد شكل على الدوام «مسلكا» للتفكير والتخييل، باعتباره حالة وجودية مولدة للقلق والتوتر. فقد اعتبره هيدغر على أنه الضباب الصامت، الذي يغتال الرؤية ويفتح كل الاحتمالات، مثلما وصفه كيركغارد بأنه جذر كل الشرور، وأنه منتهى اللا طمأنينة برأي الشاعر بيسوا، الذي عمل على تكثيف دلالة الضجر في هكذا تعبير: «أحس بأني لست أكثر من ظل لشكل، لا أقدر على رؤيته، إنني أعيش في اللا شيء مثل الظلام البارد، حيث لا يوجد هنا إلا حائط الضجر، الذي تعلوه كسور الغضب الكبيرة».
إن فقدان معنى الأشياء، انتماءً وإرادة وفاعلية، يُدخل الإنسان في دوامة المبتذل والعابر والروتيني، حيث الفراغ المطلق والتدوير المكرور، ولما يغيب الحافز وترتبك مسارات التجديد والتغيير، تتعطل دورة الحياة في بعدها الأنطولوجي المشبع بالفعل والتردد والمغامرة والشغف، فلا تصير الحياة جديرة بالحياة، ما دامت الساعات القادمة مجرد نسخ مكرورة لزمن بطيء عنوانه الانتظار والرعب والقلق. هنا بالضبط، وكما يقول شوبنهاور «تتذبذب الحياة مثل رقاص ساعة، يمينا وشمالا، من الألم إلى الضجر، باعتبارهما عنصرين مؤسسين للحياة».
إن الضجر، والحالة هذه، هو انحسار للمعنى وانتهاء من إدراك الفارق، إنه انتفاء للإرادة وغرق مباشر في التشابه الفج، فلا اختلاف بين السابق واللاحق، ولا إحساس بالأثر أو الإثارة، ولا انشغال بالأمل أو الفضول، فقط هي الرتابة التي تحرك بندول الزمن الضائع، بلا ماهية ولا شغف. أليس الموت المقنع بالحياة، ما يحيل عليه كل هذا الضجر؟ لنعترف بأن ثمة جوائح اقتصادية ونفسية واجتماعية تترتب عن جائحة كورونا، فأي لقاح كفيل بمداواة جائحة الضجر، التي تجتاح العالم في صمت، وخلف الأبواب الموصدة، وتخلف وراءها عنفا وقلقا ويأسا معتقا؟ وأي ترياق نحتاجه آنا لصناعة الحياة ومقاومة اللامعنى؟
آل الهندسة الأخلاقية للجائحة، يقترحون التداوي بالحرف والسؤال لرتق الرقع وتلافي السقوط، وآل «التديين» يقترحون الهجرة إلى السماء ضدا على السأم، فيما آل «التسييس»، يريدونها لحظة للمصالحة مع «السياسي» والوقوع في غرام «التكنوقراط»، فيما الدولة موزعة بين دواء «الدولة الحارسة» وترياق «الدولة الرعاية»، في حين ينتصر آل «التهوين والتهويل» والذين يُحتمل أن يكونوا أيضا من أصحاب الخطابات الفائتة، ينتصرون، للرعب المعمم أو الوهم المعمم، عبر وسائط الميديا التي تَفَاقَمَ «النزوح الإلكتروني» نحو منتجاتها ومجالاتها التداولية الافتراضية والواقعية،وبين هذا وذاك، يبقى الضجر والتنميط والملل واقعا يبحث لنفسه عن لقاح آمن، في انتصار، نتمناه مؤقتا، للعنصر الخامس.
لا بأس أن نكتب ختاما مع الفيلسوف سلافوي جيجك، مديحا للملل، عَلَّهُ يعيدنا إلى سجل الأمل، فالملل عنده هو مطلع كل فعل أصيل، وأنه ما يفسح المجال لانشغالات جديدة، إذ بغياب الملل يغيب الإبداع، وإن لم تشعر بالملل، يقول سلافوي، فإنك مستمتع، وبغباء، بوضعك الراهن. فالملل سؤال يقظ يدعوك إلى رفض الكسل وبحث آفاق أخرى لكتابة الحيوات.