كان من المستحيل بالنسبة لنا في زمن السبعينات أن نلج غياهب فن الملحون، وأن نسبر أغوار “طلاسم” كناوة ، وأن نفهم بالشكل المستقيم الفن الأمازيغي والحساني، وأن نتفاعل بالشكل الجيد مع إيقاعات الحمدوشي وأقلال والهواري وغيرها من الإيقاعات والأهازيج التي يحفل بها التراب الوطني.
لم نكن نتماهى مع فنون التقيتقات واللعابات وحتى الشيخات والعيوط وغيرها من الألوان الفنية الجميلة …
شخصيا وكأقراني من جيلي، كنا نرى أن الملحون هو حكر على فئة معينة، شأنه شأن الفن الأندلسي والغرناطي، لا نفهم أشعاره وتفاصيل مقاماته وأنغامه بل كنا نعتقد ونحن نرى جوقا منهم، أنهم أناس آخرون غيرنا خاصة إذا استحضرنا مشهد الفضاءات العمرانية التي يصورون فيها إبداعهم للتلفزة. منا من كان ينعتهم ب ” أصحاب غريبة ” في إشارة إلى أننا لا نفهم ما يقدمون، كانت وسائل التوضيح والإفهام في تلك المرحلة شبه منعدمة ولا يفهم تلك الألوان التراثية إلا من يقطن الحاضرة التي تحتضنها، فلتات أحيانا تأتينا عبر المذياع وفي أوقات غير مشجعة لن يتابعها إلا من له إلمام بهذا الموروث.
كنا نحس وكأن هذا الموروث يعيش حالة انغلاق وكأن أهله لا يريدون الانفتاح به، هذا الإحساس صراحة أو هذا الحدس لم يكن خاطئا. لما نضجنا قليلا وسافر بنا العمر تأكدت شخصيا من أن بعض أهل هذه الألوان التراثية وأنا هنا أركز على ” التبعيض ” ، لا يريدون أن يجعلوها مشاعا ، فإذا ما اقترب أي شاب منها إلا وانهالت عليه ” طاحونة ” التشكيك والتيئيس ، بدءا بسؤال من تكون ؟ واش لاحك لهادشي ؟ هادشي عندو الصنايعية ديالو ، واش غير اللي ناض يدخل لهادشي .. وما إلى ذلك من جمل المنع والإقصاء والتبعيد حتى تعتقد بأنك بصدد قلعة خاصة حكر على عائلات وجمعيات بعينها وليست متاحة للجميع ، حتى في المهرجانات فإنك لن تجد إلا أسماء معينة لها حق التمتع بالصرف المريح دون أخرى تكابد وتعاند عبثا عساها تسهم في سطوع هذا الموروث .
كناوة، كان معظم الناس ينظرون إليها بعين الحذر، اعتبارا منهم أنها تعتمد طقوسا غريبة قريبة من الشعوذة وعالم الجن وما إلى ذلك ، وكان أهلها أيضا منغلقين لا ينظرون بعين الرضى لمن اقترب من عالمهم ذاك..
عموما كان الانكماش هو العنوان الأبرز لمروثنا التراثي، أحيانا بإرادة إعلامية في تلك الفترة وتارة برغبة بعض من يزاولون هذه الفنون الذين أضفوا عليها طابع القداسة ووضعوا شروط الخزيرات لمن أراد ان يقترب منها ، هذا الانكماش جعلها محلية محضة أو إقليمية إن توسعت …
في بداية السبعينات سيظهر من أحياء الهامش ولد اسمه بوجميع، ليس له حتى ثمن ركوب الحافلة ليتنقل بين الحي المحمدي ومسرح الطيب الصديقي، ليقود رفاقه للخشبة(ناس الغيوان) ويلقي علينا دفاتر موروثنا التراثي بما حملت من كناوي وأندلسي وحمدوشي وعيساوي وبدوي وحساني وجبلي وفنون القول وغيرها . ألقى بهذه الدفاتر ومات في ظرف سنتين، نقل لنا موروثا عمر منغلقا لقرون جعله يدخل قلوبنا ويبعث فيه الروح ليقوم للمجد والتحليق مكسرا الإقليمية والمحلية ، ما كان حكرا على البادية جعله يدخل للحواضر وما كان محسوبا على الحواضر سافر به للمداشر و ” التربة تعانق التربة ” واللسان يفهم اللسان والألوان تتداخل مع باقي الألوان ، من خلاله غير الشباب رؤِيته للعديد من ألوان هذا الموروث وتشبع بعمق هوية كاد أن يطمسها الاحتلال.
عامان مقدارهما قرون : بوجميع … جامع لسان الشتات التراثي
الكاتب : العربي رياض
بتاريخ : 31/10/2023