دخل المعترك السياسي من جهة اليسار، وخرج منه من الجهة نفسها؛ عبد الله ابراهيم، رئيس أول حكومة يسارية في المغرب، المسؤول السياسي النظيف الذي أخلص لمواقفه، والمثقف الذي جالس كبار مثقفي العالم، وساهم من موقعه كأحد رجال الحركة الوطنية في تدبير الشأن العام.
قليل من المغاربة اليوم، من يعرف هذا الرجل السياسي المحنك، الذي رحل عنا في شتنبر 2005، وقليلون يعرفون أنه كان يقود أول تجربة للأمل، وأول حكومة كانت منشغلة، حقا وصدقا، بدسترة ودمقرطة وتحديث الدولة المغربية، لكن إسقاط الحكومة على ذلك النحو المخطط له من قبل «الطابور الخامس» أجهض أمل المغاربة.
وقد ظل عبد الله ابراهيم أيقونة قيادية ذات سلطة أخلاقية وضمير سياسي واضح، غير منغمس في المساومات والدسائس
وترتيبات الظل.
وقد جنحت زكية داوود، عبر مؤلفها الحديث « عبد الله إبراهيم: تاريخ الفرص الضائعة»، نحو استعراض السيرة الذاتية لواحد من إيقونات النضال السياسي بالمغرب، شخصية اجتمعت فيها صفات الثقافة الذكاء والحنكة السياسية، عبر تجميع مجموعة من أبرز الصور والبورتريهات، فضلا عن شهادات لأشخاص عاصروا عبد الله ابراهيم وتاريخه السياسي.
ظهرت الحكومات العربية، كما ذكرها عبد الله ابراهيم، على النمط البيزنطي والفارسي، متفادية العمل بالنمط الخلافي، خالقة وقفة أو استراحة طويلة، ما بين الدين المقبول والجماعات المرفوضة.
يذكر عبد الله، عبر دراسته للعديد من المؤلفات التاريخية، أهمية السلالة الموحدية وتفوقها خلال هذه الفترة الزمنية، وهو التأكيد التاريخي الذي ستتم مناقشته باستفاضة، من طرف العديد من المؤرخين الشباب المغاربة، والمتفقين معه في رأيه بخصوص قرطاج و روما.
في كل الأحوال، فإن الانتقال ما بين هذه الأنماط الحكومية، يعتبر من السمات المعروفة بمنطقة المغرب الكبير، منها ما بناها و منها ما حطمها.
كتب عبد الله عن المغرب الكبير قائلا «عرف المغرب الكبير، على مدى قرون من الكسل والتوقف، غيابا عن الفرص للانتقال نحو الفعل الإنساني، ليتواجه خلال القرن العشرين مع الامبريالية العالمية، دون استعداد لمواجهة عالم أكثر تعقيدا منهم، مجبرا على تقبل ثقافة لا تمثله، لكنه قاوم..
وبحسب عبد الله ابراهيم، فإن تطور المغرب قد حصر ما بين قطبين حصريين، الديمقراطية المتشعبة في الجسم الاجتماعي، وإنشاء المزارع الاجتماعية، والتنظيم الذاتي والاتحاد المجتمعي، والنظام الإقطاعي المستبد.
لقد ذكر الكاتب استنادا إلى التاريخ، العديد من الفترات الصعبة التي عاشها المغرب منذ تأسيسه، والمساهمة في التأسيس للفكر المغربي لدى ساكنته، في صراعات دامت لأكثر من ثلاثة آلاف سنة.
يقارن الكاتب على وجه الخصوص، ما بين «ثورة المهمشين» على أساس الدوناطية، في مواجهة روما المقاومة ضد الحماية، مستذكرا أعمال الشغب في 1965، مستعرضة اللقاء ما بين شعبين عاقل ومحافظ، وآخر غاضب وصارم.. ما بين الغموض والاستبدادية. إن الشعب العاقل و المحافظ، هو ذاته الشعب المسرور والفرح، المندمج بقوة في مسؤولياته بالفلكلور.. ومن جهة أخرى، فهو شعب غاضب و صارم إلى أبعد الحدود، وهي صفات يتشبث بها بشدة.
قبل فترة من ظهور الإسلام، عرفت الكنيسة بـ»التجريبية- الفوضوية»، في خضم فشل الكنيسة الكاثوليكية، في حين أن اليهودية قد عززت قوتها الدينية، رغم اعتبارها دين الأقلية تحت الحكم المتسامح للسلالة البربرية، التي حمتهم من الاضطهاد الديني بعد رحيلهم من اسبانيا.
تذبذب تاريخ المغرب ما بين عدة أمنيات، كالرغبة في الاستقلال المحض.. والسعي الجدي للحكومة العالمية، الماحية لصفات الحدود الجغرافية والإنسانية، والتناقضات الأساسية للجدلية الاجتماعية المغربية، وهي نفس التناقضات التي أشار إليها الكاتب، والمتموقعة في الوضعية الاجتماعية الحالية، ما بين القمعية والرغبة في التحرر، ما بين بناء الوحدة والاشتراكية المغاربية، والتشدد الذي عصف بالعالم الثالث.
إن الحرية في النضال ضد المستعمر، هي نابعة من رغبات المستعمر بنفسه، في حين أن المشكل الاكبر لهذا التكتل، يكمن في النطاق اللغوي.
لاحظ عبد الله ابراهيم، على مدى التاريخ اللغوي المغاربي، ما قدمته اللغة العربية على مدى العصور، من خدمات مجتمعية شملت حتى الفينيقيين. إذ لوحظ أن هذه الإشكالية اللغوية، قد تأججت حتى في فترة الاستعمار، مع تبعات انشقاق شملت أقوى المجموعات، في مجتمع منفتح على الثقافة الأجنبية، بالرغم من أميته وضعف بنائه الثقافي، يضاف إلى هذه العقبات، مشكل البناء المغاربي.
ان لفظ «الاستقلال» بحسب عبد الله ابراهيم، لم يفتح سوى بوابة «الحرية»، إلا أن تحقيق هذه الحرية يحتاج لأربعة عوامل أساسية، من بينها «الديمقراطية الحقيقية»، لا على مستوى الدولة فقط، بل على مستوى البنية الاجتماعية، إذ أن على الدولة التخلص من «التجريبي- الفوضوي». على الدولة أيضا، ان تعمل على إعادة الهيكلة الفلاحية، منافية لجميع أنواع الاستغلال ضمن الإنتاج، إذ وجب أن تمثل العمود الأساس للعدالة الاجتماعية، وللثقافة العربية العامة الحقيقية المستندة إلى المعرفة الخارجية ووحدة المغرب الكبير، كأساس مادي ورؤية أساسية ولابد منها، لأجل التنمية السريعة.
هكذا ينهي الكاتب مؤلفه، الغني بالمراجع الثقافية والتاريخية، المنسمة بعبق آلاف السنوات من التاريخ البشري، فهي بمثابة الدفعة ضد السلطة المطلقة، أكثر من اعتبارها تحليلا عميقا لتاريخ المغرب، مع التساؤل الشائك والأصلي حول موضوع «الحكامة».
لقد أبان الرئيس الأسبق للحكومة عن معرفة واسعة أهلته لأن يصبح أستاذا جامعيا، وهي المهنة التي سيلتحق بها فيما بعد في جامعة الدار البيضاء، مدرسا للعلاقات الدولية بأجر بسيط و عقد عمل ابتدائي.
آثر عبد الله ولوجه لمجال التعليم العالي، على تواجده بالمنزل الذي أصبح نادرا، وذلك لكثرة أشغاله وقلة وقت فراعه، لكنه يهتم بأطفاله، بكل الحب الذي يمكنه تقديمه لهم ما يجعلهم فرحين به.
لقد عاش عبد الله حياة متواضعة، رفض فيها أجرة التقاعد عن منصبه السابق، بالرغم من حقه فيها، كما أن منزله بالدار البيضاء ليس في ملكيته. بينما حصل فيما بعد، على قطعة أرض صغيرة ببنسليمان، خصصها للعمل الفلاحي.
تذكر ابنته ليلى، تلك الفترة من حياة والدها «بالرغم من عيشتنا اليومية المتواضعة، لكننا لم نشعر بالنقص أو الحرمان من شيء، لم نعش حياتنا قط ضمن مستوى عال، لكننا كنا نأكل ونشبع حتى التخمة. عشنا تلك الفترة، دافئين ولم نطمح لأكثر من هذا، كنا نسافر وحظينا بأجمل رحلتين نحو الأندلس، حيث إن أمي امتلكت سيارتها و هي من كانت تقود بنا».