عتبات إلى «بنية الخطاب القصصي بالمغرب»

في عالم مَعْلَمُه الأساس هو التشظي وتعاضد المتن السردي مع السند التاريخي، يصير المنجَز الأدبي مرآة تنكسر عندها الذات الجماعية لتتراءى متداخلة، متنافرة، متراكبة. هي نفسها لحظة انبراء الكتابة النقدية بوصفها فعلا مزدوجا: استكشافا وإعادةَ بناء، تفكيكا وتأويلا.
في هذا السياق المتوتر، تُطل علينا الدكتورة إيمان الرازي بباكورة أعمالها النقدية التي وسمتْها بـ»بنية الخطاب القصصي بالمغرب: أحمد بوزفور نموذجا»، في منعطف فاصل يُفصح فيه الخطاب القصصي المغربي عن الحاجة إلى مشاكسة نقدية عالمة، كفيلة بإقامة الألفة بين البنية النصية والبنية الاجتماعية، وبتيسير البحث في الأنساق السردية عن تحققات الهويات المركبة والمتداخلة، في القصة القصيرة كشكل ممكن من أشكال انكتابها.
تدعونا فرضية انطلاق هذا المنجز النقدي إلى إرهاف السمع لها، وهي أن القصة المغربية القصيرة تتمرد على قوالب تسييجها كأداء أدبي وكفى، إلى كونها جيوش مقاومة رمزية تستضمر اعتمالات المجتمع المغربي في علاقاته المراوحِة بين المؤالَفة والمخالَفة مع التاريخ والسياسة والاقتصاد. لقد أسعفت المُكنة النقدية للدكتورة الرازي في فضح كامنات الانزياح السردي بوصفها إسقاطاتٍ جماليةً للأنساق الثقافية المغربية المتعددة الروافد والمكونات عبر مدخل الفعل القصصي، مع استغراقها للوُسْع في ترَصُد ميكانيزمات التحويل الرمزي من الوقائع المجتمعية إلى البنيات السردية.
وبذلك، يتجاوز الكتاب أعتاب الوصف إلى محراب النقد باستدعاء مفاهيم البنيوية والسيميائيات، اعتبارا لكفاءتها التأويلية وسطوتها في تشكيل التجربة القصصية تبعا لأنساقها الجوانية.
لهذا الكتاب سياق ثان في الإصدار، وهو التراجع النوعي للدراسات النقدية المنتظمة في سلك الجدية، في مقابل قراءات الانطباع وتسليع النقد. وعليه، يمثل «بنية الخطاب القصصي بالمغرب» إسهاما شجاعا يروم استرجاع مسلوبات النقد المقتدر على تفكيك التمثلات السردية وفهمها كحلقات متعالبة في نسق مجتمعي.
إن اختيار الدكتورة الرازي لمجموعة أحمد بوزفور القصصية «النظر في الوجه العزيز» لم يكن حظا منهجيا، بل هو تعبير عن رؤية نقدية واعية ومستنيرة تبحث في تخوم الخطاب عن ديناميات التشكل القصصي، حيث يجاوز الزمن في هذه المجموعة كونه وعاءَ أحداث إلى كونه عنصرا ديناميا يعيد ترتيب الذاكرة السردية على نحو يحتج على الخطية ويحتفي بالممكنات التأويلية.
في هذا المقام، يبدو تحليل بنية الزمن ضربا من استقصاء التشابك بين الذات الساردة وزمن عيشها التاريخي والسياسي، حيث تتحول الفلاشباكات إلى وجهات نظر تاريخية متصالحة مع التاريخ، وحيث يتحول المكان إلى مكانة بلغة ابن عربي، أكثر من كونه أحيازا جغرافية، في حالة من التناوب غير التوافقي بين الوصل والفصل، بين الانتماء والإقصاء، وبين الأنس والوحشة.
وفق هذا المَيْسَم، تتحول فضاءات السرد البوزفوري إلى بنى دلالية حاضنة لتقاطب الثقافي والاجتماعي. على أن يبقى المطمح الصميم للكتاب هو قراءة هذه البنى في محاضنها الاجتماعية الشديدة التداخل بين الذاتي والجماعي.
إن «بنية الخطاب القصصي بالمغرب» ينكتب كقراءة أكاديمية للفعل القصصي كما هو في الكرونوطوب المغربي الذي يتأبى على الانضباط إلى نظرائه في أحياز ثقافية أخرى، تأكيدا لأحقية استثناءٍ إبداعي كما عبر عنه أحمد بوزفور واستثناءٍ نقدي كما تُعبر عنه الناقدة.
ولئن كانت القريحة السردية لأحمد بوزفور تضمن لعمله أن يظل خالدا، فإن هذا العمل النقدي الرزين يستحق أن يكون بين بوزفور وقرائه النجباء كخير سفير.


بتاريخ : 25/04/2025