«كل معرفة تبتدئ من العاطفة »
ليوناردو دافنشي
تمهيد :
الكتابة الشعرية، التي تميز قصائد النثر، بجرأتها وبوحها، هي المسافرة عميقاً في أغوار الجسد بكل حرية، ورغبة جامعة وجامحة بين الجسد والنفس، حتى لا تنحصر في حدود الإرادة بل في (الجهد الذي نسديه من أجل الحفاظ على وجودنا وتنميته ) قصد الحفاظ على الروح والجسد معاً، حسب إشارات سبينوزا، وهنا جدوى الشعر، حيث ينقي ويهذب الذوق والنفس، ويجعل الحب يتجلى في أسمى مراقيه، ويتنوع بتنوع الموقف والهدف، فكتابة الشعر، لم تعد لتسلية الخاطر، وإنما لإعمال الفكر والعاطفة، عبر القراءة وإعادتها، والعمل على التأويل، وفقاً لتنوع القراءة وتعدد الخبرات، حتى نساير كل الرغبات في الماضي والحاضر والمستقبل.
ضمن المشروع الملقى على عاتق بيت الشعر بالمغرب، صدر عمل شعري جديد للشاعرة أمل الأخضر، يشمل خمسة وثلاثين نصّاً، تتراوح بين الطول والقصر، والشذرات المكثفة كشهدٍ، لتذوق الحياة بكل تقلباتها، مع اختيار عنوان يغطي المجموعة بكاملها، وهو اختيار صائب، يحيل على سمفونيات الرائع تشايكوفسكي، من بحيرة البجع، حيث يرقص هذا الطائر رقصة الموت، كلما أحس بها، إلى إيقاع رقصات الباليه، وهذا يذكرنا بتصوير الألم في بيت للمتنبي :
« لا تحسبوا رقصي من بينكم طرباً _ _ فالطيرُ يرقصُ مذبوحاً من الألم «
بدأت الشاعرة بِـ ( عتبات ) كمشهدٍ للبدءِ، والرصد الشامل، ثم الدخول إلى شتى صنوفِ المشاهد على اختلافها وتنوعها، لترصدها، وتقربَها من عالمنا، لنشارك، ونجرِّبَ، ونقتنعَ، وما أجمل أن يكون البدءُ بشعاع مستمد من الحب، وطقوسه، والتضحيات في سبيل استمراره، وتوهجه، مما يجعل الكلمة المفتاح تتكرر إثر كل مقطع، ليرسخ في الذهن، ويجعل القارئ لاهثاً عقبَ عمق التجربة.
(أمضي في الحب)، حيث تتردد الكلمة ست مرات، حسب تكون المقاطع، وكأنها تمضي إلى حرب ضارية، فإذا كانت الشاعرة حفيظة الفارسي بنصف خوذة، فأمل الأخضر (أضع الخوذة على رأسي والدرع الحديدي على صدري حتى لا ألتهب) ص 3. من شدة حرارة الحب، وتذهب كمن يقامر بآخر فلس، وتمضي في طقس غنائي، وتهيئُ الطقس الملائم، وتكتب وصيتها الأخيرة، وترتدي أجمل ما عندها وترتمي (في أقصى زاوية الغرفة) ص 6.
أما (في الحب)، ففيه انتظار، وفيه حوك للنسيج، في انتظار الغياب، والإطلالة على (خيبة العمر)، وكل عمر أمام المرآة، في الحب كل المتناقضات.
تعمدنا هذه البداية، لنعرف الحب، ونتذوقه بكل أشكاله عبر الحياة، فكل شاعر وفيلسوف ومفكر ومتصوف، يكتب ألم الحب، ويعرفه سواء عبر تجربته أم تجارب الآخرين، من ابن حزم، إلى ابن عربي، إلى الحب البلّوري عند ستاندال، إلى انتصار الروح على الجسد عند كيركجارد، إلى أخلاقية الحب عند سبينوزا، وتساوي الروح والجسد، لضبط إرادة الرغبة، إلى الحب الذي يجيب على مشكلة الوجود الإنساني، إلى ارتباطه بالحرية عند جان بول سارتر، وكل هذه المحطات المتعلقة بالحب وصنوفه، ومشاقه، تناولتها الشاعرة بشعرية فائقة، وإيقاع شعري، استفاد من سمفونيات تشايكوفسكي، ولكن النغمة الطاغية هنا، هي الحُزن المعشش في كل العيون، وفي المحيا، وفي كل التفاصيل نتيجة التأثر والتأثير.
لا يقف الحب عند هذا الحد، لكنه يصل إلى النشيد الذي يمنح، نصائح وإرشادات تنقلها الأم إلى ابنتها وتصبح وصايا للكل (سأعلم ابنتي أن الحب خيطه رهيف ومفتاح بيته هدمي إن ضاع تبخر. سأقيم حفلة على شرف حضورك وأشرب نخب لذاذاتك) ص 21.
إن الملاحظ، بين طيات هذا الحب المتنوع، بتنوع المواقف، يغلفه الحُزْنُ والحَزَنُ، والفرق بين الاثنين واضح، كما يحدده اللغويون، فالحُزْنُ الأول ما تعيشه الذات في كل لحظة وحين، وخير ما يعبر عنه نص ( عازف سكسفون )
(حزينة كشجرة زيزفون وحيدة
في صحراء شاسعة
حزينة.. كحصاةٍ دحرجها اليم
وسحقتها خطوات خشنة
لصيادي الليل البهيم) ص 13
ويستمر تعدد الحالات التي تكون فيها الشاعرة حزينة، وتدركها الأشياء الهشة والبسيطة، وتربطها بأجواء الحزن، مع ربط الحزن بالألم والمرض
(فأسعل سعالاً حادّاً
لتقفز من بلعومي شظية مرورك
ويشتد وقع هوائك في داخلي
فأغيب في دوخة مفاجئة) ص 24، ثم يتجلى بشكل واضح في (ناب الألم) :
(أنظر إلى ناصية العمر.. هناك
سترى روحي معلقة على غصن
شجرة الكستناء العملاقة) ص 35، حتى على مستوى الرؤية، ترى الورد جافاً وشاحباً.
أما الحَزَنُ، فما يتذكره المرء، بعد صفاء، لأنه يبتعد، أو النفس يعالجها النسيان، إذن لماذا هذا الحزن؟ إن الجواب يكمن في قصيدة ( لست سليمان ) ففيها يبدو كل شيء ذا تأثير قوي، في نفسية الشاعرة، وفي نفسية المتلقي، هذه هي الإشارات الحقيقية، لتغمر ينابيع الشعر، لأن الشاعر الحقيقي، يتأثر لأوهى الأسباب، ويقرع الأجراس، وهذا الحزن الآني، والحَزَن الغائب/ الحاضر، يتمأسى من المأساة، في ظل سمفونيات تشايكوفسكي، باعتبار أن العتبة، هي المدخل الأول لعالم الشاعرة، والاختيار يتجلى في ( بحيرة البجع )، حيث أن هذا الطائر يحس بالموت، فيبدأ في رقصة الوداع بشكل مأساوي.
إن الشاعرة أمل الأخضر، شفافة وتتأثر لأبسط الأشياء، لأن الشعر الصادق، ينبع من النفوس الملتاعة، ويختار الشاعر لغة شفافة واضحة، لا تحجبها المساحيق البلاغية، بل تصطفي المجاورة زماناً ومكاناً، لخلق المؤالفة والائتلاف بين الكلمات.