تتراجع ثقة الأسر المغربية في المستقبل بوتيرة متسارعة، تحت ضغط غلاء المعيشة وارتفاع تكاليف الحياة اليومية. فالأجور ثابتة، والأسعار تواصل الصعود، ومؤشرات المندوبية السامية للتخطيط تؤكد أن الإحباط أصبح شعورا عاماً لدى المغاربة. خلال الفصل الثالث من سنة 2025، سجل مؤشر ثقة الأسر تراجعاً إلى 53,6 نقطة بعد أن كان 54,6 نقطة في الفصل السابق، ما يعكس استمرار الانكماش في المزاج الاقتصادي والاجتماعي رغم الخطاب الرسمي الذي يتحدث عن تحسن الظرفية.
وتظهر نتائج البحث الوطني حول الظرفية لدى الأسر أن 77,9% من المغاربة يرون أن مستوى معيشتهم تدهور خلال الأشهر الاثني عشر الماضية، مقابل 5% فقط يعتقدون أنه تحسّن. هذه النسبة الكاسحة من السلبية تكشف عمق الأزمة المعيشية التي تحاصر الطبقات الوسطى والدنيا، حيث فقدت الأسر توازنها بين الدخل والمصاريف، وبات الغلاء يلتهم كل هامش للراحة أو الادخار. والأسوأ أن أكثر من نصف الأسر (51,4%) تتوقع مزيدا من التدهور في المستقبل، وهو ما يعكس تراجع الأمل وغياب الثقة في قدرة الدولة على وقف النزيف الاجتماعي.
في مقابل هذا القلق العام، يسجل تحسن طفيف في نظرة الأسر إلى البطالة، إذ تراجعت نسبة من يتوقعون ارتفاعها إلى 70,5% مقابل 76,3% قبل عام. ورغم أن المؤشر يبدو إيجابياً على الورق، إلا أن سبعة من كل عشرة مغاربة ما زالوا يتوجسون من تفاقم البطالة، ما يعني أن الشعور بعدم الأمان الاقتصادي مستمر في تغذية موجة التشاؤم الجماعي.
أما على مستوى الاستهلاك، فالأرقام لا تقل قتامة. فحوالي 69,4% من الأسر تعتبر أن الظرفية غير ملائمة لاقتناء السلع المستديمة، ما يعني أن الكماليات وحتى بعض الضروريات أُرجئت إلى أجل غير مسمى. الاستهلاك، الذي يشكل محركا رئيسيا للنمو، يتقلص تحت وطأة الخوف من الغد، لتتحول السوق الداخلية إلى فضاء للتقشف القسري لا للاختيار الاقتصادي.
الوضع المالي للأسر يعكس الواقع نفسه. فحوالي 59% من الأسر تؤكد أن مداخيلها بالكاد تغطي مصاريفها، فيما 38,7% تضطر إلى استنزاف مدخراتها أو اللجوء إلى القروض لتغطية الحاجيات اليومية. وحدها 2,3% من الأسر استطاعت ادخار جزء من دخلها. وعندما يُسأل المواطنون عن آفاقهم المالية، لا يتوقع تحسناً سوى 14,3% منهم، مقابل 24,3% يرجحون مزيداً من التدهور. هذه المؤشرات تظهر اقتصاداً منزوع الثقة، وأسراً تعيش في دوامة الإنهاك المالي.
وإذا كان الدخل يتآكل، فإن الأسعار تواصل زحفها بلا كوابح. فقد أقرت 95,7% من الأسر بارتفاع أسعار المواد الغذائية خلال السنة الأخيرة، بينما تتوقع 81,8% استمرار هذا الارتفاع في الأشهر المقبلة. بهذا المعنى، ويزداد المشهد قتامة حين نعلم أن 90,4% من الأسر صرحت بعدم قدرتها على الادخار خلال السنة المقبلة. هذا المعطى وحده كاف لتلخيص عمق الأزمة: أغلب المغاربة يعيشون على الحاضر دون أفق للغد، بعد أن أُنهكت قدرتهم على التحمل، وتآكل شعورهم بالأمان الاجتماعي. فعندما تغيب القدرة على الادخار، يغيب معها الإحساس بالاستقرار..
وتؤكد هذه الأرقام أن مؤشر الثقة أصبح مرآة تعكس حجم الخيبة الجماعية من أداء السياسات العمومية. فالمواطن الذي يقرأ عن مؤشرات نمو إيجابية لا يلمسها في حياته اليومية، يشعر أن الفجوة بين الخطاب الرسمي والواقع المعيشي تتسع عاماً بعد آخر. ولعل الأزمة اليوم ليست في الغلاء فقط، بل في استدامته، وفي العجز المزمن عن بناء سياسة دخل متوازنة تحمي الطبقة الوسطى من الانزلاق إلى الهشاشة. فقد تحول الخوف من الغد إلى مزاج وطني، وصار التشاؤم الجماعي مؤشرا اجتماعيا لا يقل خطورة عن مؤشرات التضخم والبطالة. فحين يفقد الناس ثقتهم في المستقبل، يتعطل الاستثمار والاستهلاك، ويتراجع الأمل كأهم رأس مال اجتماعي.