الموت والزواج والعزوبة
تعززت المكتبة الوطنية أواخر السنة الماضية بكتاب مهم يحمل عنوان « على عتبة التسعين، حوار مع الذات « للشيخ عبد الرحمن الملحوني.و فيه يغوص الكاتب الذي عُرف بغزارة عطائه خدمة لتوثيق الذاكرة الشعبية بمراكش و لأدب الملحون، في ما أثمرته ستون سنة من البحث و التنقيب فيما تختزنه الصدور من رصيد شفهي، و في ما توارى من مكنونات المخطوطات و الكنانش والتقييدات، التي لولا انتباهه السابق لزمانه، لكان مصيرها إلى الإتلاف. ليضع أمام الوعي الجمعي المغربي رأسمالا استثنائيا من الدرس و التدقيق في مكونات الثقافة الشعبية المغربية عامة، و الثقافة المراكشية خاصة. في هذه السلسلة نستعيد مع الشيخ عبد الرحمن الملحوني جوانب مما تضمنه هذا العمل، في جولة ساحرة تجمع بين ذاكرة الطفولة و تراكم العادات، و تقاطع الخطاب و فنون العيش في الحومات، إضافة إلى تطور سيرته العلمية في الزمان و المكان في احتكاك مع هواجسه المعرفية التي حركت أعماله.
n هناك أيضا عادات وممارسات ارتبطت لدى سكان حومات مراكش بطقوس الحياة في أفراحها و أحزانها…
p نعم، هناك الكثير منها. ومن ذلك صْبَاحْ القـَبر. فعندما تفقد الأسرة التقليدية أحَد أفرادها، تذهب في اليوم الموالي لوفاته، لتتناول وجبة الفطور في الصَّباح الباكر بجوار قبره. وتتكون هذه الوجبة من التين والخبز وهي عادة سيئة، حاربها الفقهاء، ومنعتها السلطات المحلية، ومع توالي الأيام والسنين، وعلى تعاقب الأجيال، استبدلت وجبة الفطور بقراءة القرءان، والدعاء للميت؛ وهذه الزيارة تعد زيارة وفاء، وتذكير بمناقبه – رحمه الله -، وهي – أيضا – مما حاربه الفقهاء، واعتَبروا الدعاء له في أي مكان، خير مما تلفه عادات بداخل القبور لا يقرها الإسلام، ولَيستْ مما يسمح به رجال الدين في مثل هذه المناسبة.
ومنها أيضا عَصيدة راس العام:تُعِدُّ ربَّات البيوت طعاما من حبوب «الذَّرة» المهشَّمة (عصيدة) تقدم في وجبة عشاء ليلة شهر يناير الفلاحي (13 يناير الإداري) ويؤخذ منه قسط يلصق بمغرفة، ويبيت تحت ضوء النجوم؛ وفي صبيحة اليوم الموالي، يبحث أهل البيت، فإن وجدوا شعرة قد اِلتصقت بالمغرفة، بذاك دليل على ازدهار الموسم الفلاحي وتطور وضعية العائلة نحو الأفضل (…)
وهناك من يُضيف لهذه العادة جانبا آخر، ذلك أن ربَّة البيت التي ترغب في اكتساب «الذهب»، تهيئ عصيدة الذرَّة، ومن تريد «الفضة» تُعدها من القمح ، وهذا من مزاعم العامة الضارة، والتي لا سند لها أبدا بين الناس.
n قرأت لديك إشارة إلى بعض العادات التي ترتبط بالزواج والعزوبية ..
p نعم، مثل التـَّـنـكـية. قبل ليلة العرس بأسبوع يحضر أهل العريس الكمية المطلوبة للاستهلاك في الحفل من القمح، وتمزج بها سبع حبَّات من التـَّمر، ومثلها من الجوز، وسبع بيضات ؛ ثم يستدعى الأقارب، والجيران من النساء، وخصوصا من «العازبات» منهن، وتبدأ عملية «التنكية» أي عزل القَمح عما اختلط به من أحجار، أو أعشاب، أو تُراب، وغير ذلك، ويكون الهدف من هذه العملية، هو أن تبحث كل عازبة عن واحدة مما ذكر، وكل من وجدت ذلك، تعتبر أن «الْخطَّاب» سيدقون بابها، طالبين يَدها للزَّواج، وذلك إيذانا بمغادرتها لعالم «العزوبة»، واقتحام فضاء الزوجية والدخول إلى القفص الذهبي.ولعل هذه العادة تؤكد جانبا مهما من جوانب الإشهار، وإعلان الأسَر أن في البيوت «عازبات»، حيث يقمن للفائزات حفلا بهيجا عند نهاية أيام العرس، ويتم استدعاء الأقارب والجيران وعيّنة من شباب الحومة، وهذا – وحده – إعلان في صفوف الحاضرين أن هناك عازبات ينتظرن من يطلب يَدهن للزواج؛
وفي هذا السياق تدخل – أيضا – أفراح «عاشوراء» حيث تخرج نساءُ الحومات (وخصوصا منهن العازبات)، يُنشِدن:
«هذا عاشورْ ما عْلينا لَحْكَام، عِيدْ المولد تيحكمُوا الرّْجَال» … إشارة إلى أن النساء قليلا ما يخرجن بحرية، كما عليه حال الرجال يومئذ، وذكروا أن أحد الفقهاء كان كلما زارَ بيته زوارُ الحومة، لا يقوم بخدمتهم إلا إحدى بناته، وتغيب في مثل هذه المناسبة خادمة الدار؛ فسئل يوما عن هذا التـَّصرف، فقال: لأقول للزوار: إنَّ في بيتي عازبات، ولا ضَيْر في ذلك، بَلْ يجب فعله في كثير من المناسبات …
n إن تدبير أمر الزواجات في مجتمع تقليدي كالمجتمع المراكشي حينها، يستدعي كفاءات كان لها حضور مؤثر في هذا المجتمع، أفكر في « الخطّابة» التي كان من حين لآخر يسترشد بخدماتها..
p هي امرأة – غالبا – ما تكون عجوزا لها خبرة ودراية واسعة، وعلم بأسَر الحومَة التي تنتمي إليها، عارفة بعادات، وتقاليد المجتمع المغربي، وبشرائحه المختلفة، تكون – بهذه المواصفات- صِلة وصل بين من يرغب في «الزواج» على سنة الله ورسوله، كان الراغب شابًّا، أو كانت شابَّة؛ ونظرا لخبرتها، وحصافة عقلها، وبُعد نظرها، واحتكاكها المتواصل بالعائلات فإنها – في غالب الأحيان – تتوفَّق في اختيار الزوجة المناسبة للزَّوج المناسب. وفي هذا الصدد ذكروا أن أحد الفقهاء ماتتْ زوجتُه، وأراد أن يتزوج من جديد، فاستشار أحد أصدقائه بالحَومَة، فأشار عليه أن يطرح الأمر على «كـرَّابْ الحومَة»، فهو الذي يستطيع بخبرته المعهودة، أن يختار لك الزَّوجة المناسبة لمقامك؛ فأنكر الفقيه هذه العادة المتبعة عند أهالي الحومة، وتزوج من غير تدخل «الكراب»…
ومن خصائصها (أي الخطابة) أنها تُميز بين المرأة القادرة على شقاء أعمال البيت، وبين بنت «لَفْشُوشْ» التي غير مؤهلة للزواج؛ ولعلها تسير في تجربتها وَفْقَ المثل العربي المشهور:»وَافَق شنّ طَبقَة»…
ومن العادات المرتبطة بالزواج يُــومْ لـَحْزامْ: وهي عادة قديمة، يتم فيها وضع «الحزام» للعروس، بعد ما عاشت مدة داخل خدرها خلال سبعة أيام من عرسها، والاحتفاء بها؛ ووضع «الحزام» استعدادا للقيام بأشغال البيت، حيث تقوم أسرة العريس بحفلة بهيجة، تبدأ فيها «العروس» بإعداد الطعام، وغسل الأواني وغيرها مما يتطلبه الحفل وتحضر أسرتها للاختبار، ومعها «الخطابَة» فإذا توفَّقت العروس، كان ذلك علامَة من علامة استقرارها في منزلها، ولحسن الاختيار تأكيدا لما قامت به الخطابة.