على هامش فاجعة رحيل الكاتب والمبدع محمد البغوري ولولات الرياح التي أصبحت تزعج نوارس الصويرة

انتقل إلى عفو الله الناقد والمبدع محمد البغوري، يوم 30 شتنبر 2021 بإحدى مصحات مدينة طنجة، بعد معاناة قاسية مع المرض. ووفاءَ لذكرى عطائه المعرفي الغزير، نقترح تقديم هذه القراءة التركيبية في آخر إصداراته لسنة 2020. ما أقسى هذا الرحيل، المشهد الثقافي حزين بمدينة طنجة. إنا لله وإليه راجعون.

 

 

ما هي دلالات انكباب فاعل ثقافي وناقد أدبي ومبدع مواكب، على إنجاز حوار مع زميل له في «صنعة» الكتابة والنقد والإبداع؟ وما معنى أن يتخلص المبدع من جبته كمنتج لعلامات الخصب والابتكار، قصد الانتقال إلى مساءلة رصيد المنجز لدى «الآخر» الذي يتقاسم معه نفس الأسئلة الثقافية ونفس الهواجس الإبداعية ونفس الآفاق الاستشرافية؟ وقبل كل ذلك، هل بإمكان المبدع والفاعل الثقافي أن ينزع عن ذاته جبة «المبدع» وتعويضها بجبة الفاعل الإعلامي المسكون بأسئلة الإثارة وبشغف استمالة أهواء المتلقي غير المتخصص؟ وكيف بإمكان هذا المسعى التحول إلى واجهة للتأسيس لأسس القراءة الراشدة للمتون الإبداعية، في أفق أنسنة مضامينها، وتثمين عناصر ثرائها، وتفكيك بناها التقنية والجمالية، وتوفير –لها- عناصر الخصب والتميز والخلود، عبر تسليط الضوء على سياقات إنتاجها وعلى شرطها التاريخي الضامن لامتداد أبعادها الحضارية الواسعة؟
أسئلة متناسلة، تفرضها قراءة العمل الجديد للأستاذ محمد البغوري الصادر سنة 2020، تحت عنوان «ولولات الرياح لا تزعج النوارس في الصويرة»، وذلك في ما مجموعه 115 من الصفحات ذات الحجم المتوسط. والكتاب، في أصله، عبارة عن حوار مفتوح مع المبدع والأديب حسن الرموتي، حول مجمل القضايا الخاصة بالوسط وبالمحيط وبالسياق وبالتكوين، والتي صنعت تجربة المبدع الرموتي وأضفت عليها الكثير من سمات التميز والفردانية والعمق والتجديد. يتعلق الأمر بحوار مشرع على قضايا الإبداع والخلق والتفكير، انطلاقا من تجربة مخصوصة في زمانها وفي موطنها الجغرافي، مع امتداداتها الإنسانية الواسعة التي جعلت من اسم حسن الرموتي وجها إبداعيا له مكانته الاعتبارية داخل المشهد الثقافي الوطني بشكل عام. ولقد أجمل الأستاذ البغوري معالم الإطار العام الناظم لهذا الحوار الفكري الرصين، عندما قال في كلمته التقديمية: «مع الكاتب المتعدد المشارب، والمطل على أدبنا وثقافتنا المغربيين من نوافذ مشرعة غنية، يطيب لي أن أصغي بكل محبة وامتنان لولولات الرياح التي لا تزعج النوارس في مدينة الصويرة، وهي مشدوهة منجذبة لاعترافات حكيم مدينتها، الأديب والإنسان حسن الرموتي، الذي سيكتب لمدينة الصويرة أجمل الحكايا عن البحر، والنوارس والرياح والألوان وباقي الرزنامة… وخالط رجالاتها ونون نسوتها، وربت على أكتاف وجبهات صبيانها، ولاعب أطفالها على امتداد أعماره.. إن الحكيم، كما يحلو لي أن أسميه، صديقي حسن الرموتي معه تُجن الموسيقى، وتخرس النوارس، وتبسط المتع أذرعها، لمحاورته في سلوان روحه، ومحراب تعبده وتنسكه وهو يتأمل في الكتابة والأدب والحياة.. فيمنحنا هذه المأدبة المغناج بكل كرم وحاتمية وسخاء، لعشاق فلسفته في الأدب والحياة، وعوالمه في اقتناص الأوقات الجميلة، لينسج وينتخب أعذب الصداقات وأطرفها…» (ص ص. 8-9).
وعلى هذا الأساس، ينهض متن الحوار، ليقدم مادة ثرية في مظانها، عميقة في رؤاها، هادئة في تحاليلها، منصتة لنبض الذات والمحيط، متفاعلة مع أسئلة الإبداع ومع هواجس الخلق، فاحصة لأدوات صنع معالم الجمال في النصوص الإبداعية، حريصة على تثمين عوامل التكوين والتأثير والتوجيه التي أضفت سمات التميز على عوالم حسن الرموتي الإبداعية والثقافية والفكرية. ومن هذه الزاوية بالذات، تحول الحوار من توثيق لخصائص السيرة الذهنية للذات المبدعة للأستاذ الرموتي، إلى توثيق لعناصر الخصب داخل مكونات الهوية الثقافية المحلية لمدينة الصويرة، ولعوالمها التاريخية والسوسيولوجية والأنتروبولوجية المتداخلة. وهي العوالم التي جعلت من موغادور وجها فريدا داخل مجال تلقي الآداب والفنون وعناصر الإبداع والابتكار المرتبطة بالمكان كفضاء مفتوح للتأمل، وبالرموز كمجال للاستثمار وكوجوه للاستنطاق وكتاريخ وكسجل لإنتاج المحكيات والسرديات و»الاستعارات التي نحيى بها».
ينفتح الحوار على بحر الصويرة، فيحسن التقاط إشارات النوارس. وينفتح الحوار على معالم موغادور، فينجح في تفكيك السياقات التي صنعت للصويرة هويتها الثقافية المميزة. وينفتح الحوار على ثراء روافد التنشئة الاجتماعية التي صنعت الذات العالمة للمبدع الرموتي، فيقدم سقف الإطار التاريخي المجهري والمحلي الصانع للنخب والمنتج للأسئلة والمحرك لمجالات التأمل والتفكيك والمؤطر لفعل التخييل المنتج للنصوص وللمتون وللإبداعات. وفي ذلك، تمهيد نظري مؤطر لمجمل أوجه القلق الإبداعي التي أثارتها كتابات الأستاذ الرموتي المتواترة، وعلى رأسها مجموعته القصصية «مملكة القطار» (2011)، ونصه الروائي «نيران شقيقة» (2012)، ونصه «الامتداد الأزرق- رحلة العبور» (2013)، وديوانه الشعري «لأحلام النورس الأخير» (2016)، وسيرته الروائية «لاندوشين» (2016)، ومجموعته القصصية «أبو نواس مرشحا» (2017)، ومجموعته القصصية «بوح تحت زخات المطر» (2017)، ونصه الروائي «متاهات» (2018).
لم يتبع الحوار أسلوب الأسئلة التقنية حول المسار والنشأة على غرار ما تطفح به ساحة النشر الثقافي التنميطي، ولكنه اختار الطريق الصعب في إثارة السيرة الذهنية للمبدع حسن الرموتي، بشكل تحول –معه- المُحاوِر إلى مصدر لتوليد الأسئلة التفكيكية ولاستكشاف مجاهل مغارات الكتابة لدى المبدع الرموتي. لذلك، أمكن القول إن المجهود الذي بذله الأستاذ البغوري في توليد «أسئلته»، أضفى قيمة مضافة على «أجوبة» الأستاذ الرموتي. هي كتابة موازية، تغوص في أعماق فضاء الصويرة، وداخل متاهاتها العجائبية، منصتة لصوت البحر ول»ولولات» النوارس، ولنبض التساكن المجتمعي الذي احتضن أصوات الصويرة الخفيضة ومباهجها المدهشة ومفاتنها الأخاذة.
يستفيض الأستاذ الرموتي في الحديث عن «عجائب» وسطه وعن فتنة محيطه التي صنعت نصوصه التخييلية. ويقف عند جزئيات وسطه في أدق التفاصيل، بشكل يجعل القارئ أمام توثيق للسيرة الثقافية لمدينة الصويرة ولمعالم عطائها ولأصول إبداعاتها ولموارد فتنتها. بمعنى أن الحوار نجح في تحويل السيرة الذهنية للمبدع حسن الرموتي إلى مشروع مفتوح لكتابة السيرة الثقافية الثرية لمدينة الصويرة. ولعل في ذلك، مجال أرحب لإعادة طرح الأسئلة المهيكلة لجهود البحث في تلاوين الهوية الثقافية لمدينة الصويرة، كإبداعات عالمة وكنصوص مؤسسة، وقبل ذلك، كفضاءات قائمة وكتراث رمزي متحرك وكانتماء تاريخي بحمولاته الحضارية التي تصنع للوجود معناه وللإبداع سموه.


الكاتب : أسامة الزكاري

  

بتاريخ : 09/10/2021